الشاعرة ماه شرف خان كوردستاني.. شهد القرن التاسع عشر في اردلان (كردستان الإيرانية)، و امارة بابان (كوردستان العراق)، ازدهاراً ثقافياً ملحوظاً، فنشأت في (سنندج) عاصمة الأردلانيين، مدرسة خاصة لكتابة وتدوين التاريخ، باشراف عدد من المؤلفين اللامعين في مجالات العلم و الأدب، مثل: (نالي)، و(سالم)، و(كوردي)، و(مولوي)، و(خاناي قوبادي)، وعشرات غيرهم، تركوا بصمات واضحة على الثقافة الكوردية. كما برز صوت نسائي في النصف الأول من ذاك القرن: (ماه شرف خان كوردستاني) (1805-1847)، التي اشتهرت باسمها الأدبي (مستورة). وكما يبدو لنا فإنها تعد المرأة الوحيدة في تلك الفترة، في الشرق الأوسط، و ربما الشرق كله، التي كتبت في التاريخ، و اشتهرت كشاعرة برعت في قصائد الغزل والمراثي، على شكل رباعيات ومثنويات. كما كانت خطاطة بارعة.قصائدها شهادة نصر للأنثى في مجتمع ذكوري يقول الكاتب (مرزا علي اكبر خان)، ان ديوان (مستورة)، يتضمن (20) الف بيت بالفارسي و الكوردي، وتم جمع و طبع واصدار قصائدها بالفارسية في العام 1926، من قبل مثقف كوردي من عائلة ميسورة الحال، عرفت عنه رعاية العلم والعلماء في كردستان، هو (حاج شيخ يحيى معرفة)، تحت عنوان (ديوان ماه شرف خانم كردستاني - مستورة). وبعد عشرين عاماً، أي في 1946، تم طبع كتاب (تاريخ اردلان)، من تأليفها ايضاً، الذي ضم تفاصيل واسعة عن سيرة حياة مستورة وعائلتها. ولدت مستورة في العام 1219هـ/1805 ميلادي، في مدينة سنندج، عاصمة الإمارة الأردلانية، في فترة حكم (امان الله خان)، والد (خسرو خان). و قد تقلصت مناطق نفوذ بني اردلان في هذه الفترة كثيراً، بعد ان كانت تمتد إلى جميع انحاء جنوب شرقي كردستان، إذ ظلت هذه السلالة تحكم لمدة (600) عام، سواء في كوردستان اميان الحالية، او مناطق اخرى، و قد توفي آخر امرائهم (عباس خان سردار رشيد)، قبل اعوام في طهران. تنحدر (مستورة) من عائلة ارستقراطية ثرية، ذات نفوذ قوي، تشكلت من عائلتين متنفذتين. كان (ابو الحسن بك)، والد مستورة، يكرس اهتماماً بالغاً لتربية اولاده، و خاصة ابنته البكر (ماه شرف)، التي كانت موضع فخره وحبه البالغ، و كثيراً ما كانت ترافقه في زياراته للمناطق الأثرية و العشائر، فتصغي لقصص واساطير وسـّعت من آفاق خيالها. كان جد مستورة - من طرف والدها- (محمد اغا)، أحد وجهاء البلاد الكبار، وكانت حياته الطويلة مليئة بالأحداث، وظل لمدة نصف قرن في فترة حكم اربعة امراء اردلانيين، يشغل منصب(ناصر) كوردستان، أي المسؤول عن النظام و الاستقرار في البلاد. و تشير (مستورة)، ان جدها كدس ثروة كبيرة من المال (الحرام)، عبر المشاركة في المعارك التي خاضها الحكم القاجاري ضد خانات الكورد في كرمنشاه. واستمر (محمد خان) في منصبه حتى اواخر ايام (امان الله خان)، و لسنة واحدة من ولاية (خسرو خان)، الذي سيتزوج مستورة. وبعد وفاة الأمير (خسرو خان)، خلفه ابنه البكر (رضا قلي خان) البالغ من العمر (11) عاماً، لكن الحاكم الفعلي لسنوات سبع، كانت الوصية على العرش زوجة والده القاجارية، ابنة فتح علي شاه الشاعرة (حسن جهان خانم). و قد استمرت (مستورة) بالعيش في رعاية العائلة الحاكمة باحترام وتقدير، حتى عزل ابن زوجها عن الحكم، إذ لا تذكرهم بسوء في اية قصيدة من قصائدها، او كتابها (تأريخ اردلان)، لكنها تندب حالها و تشكو الزمان. و بعد ان خيب (رضا قلي خان)، ظن الشاه في طهران، بعدم ارسال مقاتلين لمساندته في اخماد احدى حركات العصيان، قرر الشاه التخلص من (رضا خان)، بالزحف على القصر، وازاحة العائلة الحاكمة. وبذلك تم ابعاد افراد العائلة الأردلانية، ومن بينهم (مستورة)، و قدروا بألفي شخص إلى (مريوان)، ومن هناك لجأوا إلى امارة بابان في العام 1263هـ، وبذلك زالت امارة كوردية بفقدانها التدريجي عناصر استقلاليتها، اثر التنامي على السلطة والمال بين افراد العائلة الحاكمة. وتصف (مستورة) هذه الرحلة المؤلمة في قصيدة لها، بالقول: ((لو حلق النسر فوقنا، وحدق فينا، لسقط كل ريش جسمه، و لو كان البدر ساطعاً في سمائنا، لهوى في اعماق الأرض)). وعلى ارض بابان، توزع اللاجئون في قرى شهرزور، واقامت (مستورة) في بيت ابن خالتها (حسين قلي خان)، الذي كان قد وصل إلى السليمانية من قبل، للتشاور مع آل بابان، لتدبير امور سكنهم و معيشتهم. شاعرية (مستورة) ان ابتغينا السعي، إلى تبيان بداية جغرافية للشعر الكوردي، فهي لابد من ان تكون هناك في (هورامان)، الواقعة في المشرق الكوردي، حيث تتوفر للقصيدة تربة تهبها اسباب نموها وديمومتها الكامنة في الماء والهواء والضوء والتراب. فأقدم الشعر الكوردي من منظومات شعبية، و اناشيد دينية وصلنا من هذه البقعة، وباللهجة الكورانية. ويكفيها فضلاً، انها انجبت كبار شعرائنا من امثال (مولوي) و(بيساراني)، و(خاناي قوبادي)، و(عبد الله كوران). كانت (مستورة) سليلة هذه البقعة الجغرافية، من انضج الأصوات النسائية، و اكثرهن اكتنازاً بعطر الشعر الكردي الكلاسيكي المكثف. ارتوى شعرها من بئر الشجن، ومن افتقادها حبيبها و شريك حياتها (خسرو خان الأردلاني)، والي كوردستان الإيرانية، و الملقب بـ(ناكام)، أي المأسوف على شبابه بالفارسية لوفاته المبكرة في الثلاثين من عمره اثر مرض تورم الكبد. وتستجلي أشعار (مستورة) في لفتات مدهشة تحولات الحياة في مداراتها الكثيرة، مازجة بين الحلم و الرؤيا، في متخيل رومانسي، مفعم بنفحات روحها الهائمة. ويمكننا اعتبار ديوانها، شهادة نصر للأنثى في خضم مجتمع بطريركي، لا صوت يعلو فيه على صوت الرجل. وقد اعتمدت في تجاربها على الرصيد الثقافي والروحي السائد في عصرها من شعر كوردي وفارسي، وثقافة عربية اسلامية، اذ تلقت علومها عن مشاهير علماء عصرها، كما يتبين من خلال سيرتها الواردة في كتاب (مجمع الفصحاء) لمؤلفه (رضا قلي خان هدايت)، مما مهد لها الارتقاء إلى منزلة رفيعة نالت بها حظوة كبيرة لدى العلماء والشعراء، فالشاعر الكبير (مولوي)، يقول فيها في قصيدة له: ((شمس الحسن والدلال، جالسة على عرش ملكوت الطهر والعفة، تفيض دفئاً و نوراً على الجميع)). ان موت حبيبها(خسروخان) في العام 1835م، جاء صدمة عنيفة للشاعرة، إذ شعرت بأنها فقدت بموته اعز وافضل صديق ومعلم، اذ كان ينظم الشعر بالفارسية، وكان هذا من اقوى اسباب العشق و الهيام بينهما، رغم انها كانت تكبره بحوالي عشرين سنة. تقلدت (مستورة) في عهد زوجها الأمير منصب وزيرة (الأندرون) أي مسؤولية شؤون العائلة الحاكمة والبلاط والتشريفات، و كانت تحظى وحدها، دون نساء البلاط الأخريات بمرافقة زوجها في الزيارات، وتفقد القلاع والآثار التاريخية والرعية، والاستماع إلى حكاياتهم، و شؤون حياتهم، مما مكنها من جمع مادة غنية، ساعدتها على تأليف كتابها التاريخي (تأريخ اردلان)، المصدر المهم لدراسة التاريخ الكوردي، في تلك الحقبة. ثمة مناخ اثيري يغلف قصائد (مستورة) برمتها، فسواء كان موضوعها الطبيعة، او الرثاء، او الهجاء، او الحب، او الموت، تبدو اللغة عندها شبيهة بما يرشح عن الزهرة من ندى. لغتها تبدو محايدة او انسانية تعبر بصدق عن مشاعرنا ذكوراً كنا ام اناثاً. انها تبني في قصائدها شفافية العلاقة بالعالم و اشيائه، ورهافة الاحساس بالموجودات إلى الحد الذي يقارب الانمحاء او التلاشي. يلمس القارئ انها تقلل إلى اقصى ما يمكن من التزويق اللفظي والحبكة، لتسمح لينبوع شعرها بالتدفق عفواً، وبانسيابية متناغمة مع انسيابية الحياة نفسها، كما ان اشعارها لا تنقطع عن التاريخ والأساطير، وهي تلجأ إلى قصص القرآن وتستعين بشخصيات الأساطير مثل يوسف و يونس و قارون وغيرها في بناء قصائدها، حين تستدعي الحاجة إلى ذلك. ولعل قصائدها الغزلية، هي التعبير الأمثل عن مدى ما تختزن في داخلها من رقة انثوية وانسانية، وتدفق في المشاعر والاحاسيس. العبارات نفسها تتقطع كاللهاث، محدثة موجات متكررة من المناجاة و التأمل و المونولوج الداخلي، لذلك ليس مستغرباً ان تخاطب شريك حياتها الفقيد بأبيات كهذه: ((وحدي و بعيون خسرو/ اتأمل الربيع/ اروي بدموعي الزهور/ وقدمي المكسورتين/ ووجنات التهبت آهات/ يضحك لها الشامتون، وتتوجع الأشجار/ فحتى العشب في الصباح يبكي لكثرة غيابك)) يروى ان مستورة نظمت حوالي عشرين الف بيت شعر، ضاع اكثره، ولم يبق منه سوى ثلاثة الاف بيت بالفارسية، وباللهجتين الكورديتين السورانية و الكورانية. عاشت الشاعرة ارملة ثلاثة عشر عاماً، وتوفيت اثر وباء في ديسمبر 1847، في السليمانية عاصمة البابانيين وقتئذ، ودفنت في مقبرة (كوردي سيوان). |