المتنورون المسلمون الشّوام يواجهون الاستبداد الحميدي بشجاعة
المقصود بالاستبداد الحميدي استبداد السلطان العثماني عبد الحميد (1876-1909).هذا الاستبداد هو استمرار للاستبداد السلطاني أيام المماليك والعثمانيين، الذي أوجد مناخاً فكرياً متحجراً متزمتاً ومتزلفاً للسلاطين، ومغلِقاً الأبواب أمام التقدم العلمي والانفتاح الحضاري.
تعكس ترجمة الشيخ راغب الطباع (الحلبي) لأعيان القرن التاسع عشر أحد جوانب الحياة في المجتمع الراكد لتلك الفترة. فقد صنّف الشيخ راغب الطباع الأعيان على النحو التالي:
· أعيان اشتهروا بالخوارق، أو عرفوا بالجذب وهم خلفاء الأولياء،
· أو فقراء خدموا السلك "الطريق" بأمانة وصدق،
· أو تجّار ومعلمو حرف،
· أو علماء -والمقصود بالعلم هنا هو العلم الديني، لأن العلوم الأخرى كانت مجهولة لديهم-،
· وأخيراً أعيان على صلة بالسياسة، ومن هؤلاء الأعيان أبو الهدى الصيادي الرفاعي، الذي تحدثنا عنه في زاوية سابقة.
وهؤلاء (الأعيان)، الذين عملوا في السياسة أيام السلطان عبد الحميد مثّلوا الاتجاه المحافظ المناهض للتقدم والتطور والعلم، وعدّوا كل اجتهاد مخالف لرأيهم من البدع. ووصل الأمر بالشيخ سعيد الغبرة أن استصدر إرادة سنية من السلطان عبد الحميد بمنع تمثيل الروايات في دمشق، مما اضطر رائد المسرح السوري أبا خليل القباني إلى مغادرة دمشق والالتجاء إلى مصر، مأوى جميع الأحرار (الشوام) المناوئين للاستبداد في أواخر أيام الدولة العثمانية.
نجح السلطان عبد الحميد بمساعدة مشايخ الطرق، في كسب أكثرية العامة إلى جانب سياسته في جعل الدولة العثمانية دولة الخلافة والاستناد إلى المسلمين في العالم لمجابهة (الغرب) والحفاظ على الدولة العثمانية. والغريب في الأمر أن الدولة العثمانية تحولت في عهده إلى دولة نصف مستعمَرة خاضعة لسيطرة الرأسمال الافرنسي والبريطاني والألماني. والأمر الهام الإيجابي، الذي سار عليه عبد الحميد هو سعيه لمنع الاستيطان الصهيوني في فلسطين.ومن هنا يقيّم كثير من المؤرخين عهد عبد الحميد، وبخاصة في المغرب العربي، تقييماً إيجابياً ناسين عهده الاستبدادي أولاً، وسماحه للرأسمال الأجنبي بتحويل الدولة العثمانية إلى دولة نصف مستعمَرة.
وأهم من هذا وذاك تحوّل عبد الحميد إلى أكبر إقطاعي يملك مئات القرى في بلاد الشام والعراق فيما عُرف بـ(أرض الجفتلك). ومن واردات هذه الأرض، التي أنشأ لها خزينة خاصة به، كان يجري الصرف على النفقات الباذخة للقصور المتزايدة باستمرار، والتي تعجّ بالحريم والجواري النافذي الكلمة.
لم تكن الدعوة إلى الجامعة الإسلامية مقتصِرة على السلطان عبد الحميد، بل ظهرت دعوة أخرى معاكسة حمل لواءها جمال الدين الأفغاني وتلامذته، الذين استخدموا شعار (الجامعة الإسلامية) للعمل على تحرير الشعوب الإسلامية من ربقة الاستعمار، إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وهنا استخدم الأفغاني، الذي عبّر عن تطلعات القوى الراغبة في التغيير، شعار الجامعة الإسلامية والتجديد المدني والديني لاستنهاض الشعوب ضد الاستعمار والظلم الإجتماعي. وهذا الموقف يبدو واضحاً في ممارسات الأفغاني وكتاباته في (العروة الوثقى) وفي خاطراته.
معنى ذلك أن شعار الجامعة الإسلامية جرى استخدامه في اتجاهين:
· اتجاه السلطان عبد الحميد الساعي إلى تثبيت دعائم الاستبداد واستغلال المشاعر الدينية المناوئة للهيمنة الاستعمارية لترسيخ أركان الحكم الإقطاعي دون أن تجري مقاومة جدية للهيمنة. وهذا الاتجاه القائم على تبرير الاستبداد تحت راية فضفاضة لمقاومة الاستعمار لا يزال يعيش بين ظهرانينا.
· اتجاه جمال الدين الأفغاني الساعي إلى حشد القوى الشعبية المؤمنة بالنضال ضد السيطرة الاستعمارية والسير في طريق التقدم وتنوير المجتمع وشق الطريق أمام التطور الحضاري.
***
على الرغم من الظلام الدامس لم تعدم بلاد الشام في عصر عبد الحميد من رجال شجعان رفعوا راية التنوير الإسلامي في مجابهة التيار الظلامي الحميدي. ونقدم فيما يلي لقطات من كفاح المتنورين المسلمين ضد التحجر والجمود في عهد عبد الحميد.
1- عام 1313هـ -1896م نشأت في دمشق حلقة صغيرة ضمّت لفيفاً من علماء (شيوخ) دمشق المتنورين، (أخذوا يجتمعون على قراءة الحديث، ويطلبون الدليل على أقوال الفقهاء). فما كان من سلطات دمشق العثمانية آنذاك إلا أن وجّهت تهمة الاجتهاد إلى هؤلاء المشايخ ، وعقدت مجلساً خاصاً في المحكمة الشرعية لمحاكمتهم فيما عُرف بمحاكمة المجتهدين. وكانت حادثة المجتهدين هذه من الحوادث العظام في دمشق في عصر لم يكن في البلاد أحزاب وآراء متنوعة. (ولا يعرف الناس إلا أن الخلافة إسلامية، وأن شرع الله يؤخذ عن مذهب أبي حنفية).
2- بعد حادثة المجتهدين بعقد من الزمن اضطر المستنير الشيخ طاهر الجزائري في سنة 1907 إلى مغادرة دمشق والالتجاء إلى مصر هرباً من الاستبداد العثماني. لقد وقف الشيخ طاهر الجزائري (ضد المؤلِفين، الذين يضيعون الوقت بالمؤلفات الفارغة ، إذ يتناولون كتاباً قد شرحه من سلفهم شروحاً عديدة، فيعيدون شرحه بنفس ألفاظ الشُرّاح السالفين دون إدخال إصلاح أو تجديد أو اختراع في الأسلوب). كما سعى الجزائري إلى (التوفيق بين الدين والعلم والعمران)، ورأى أن (جمود المعلمين السطحيين المنكرين للخسوف والكسوف والقائلين بتسطح الأرض وارتكازها على قرن ثور (هذا في أوائل القرن العشرين) يُبعد خريجي المدارس العصرية عن الدين. ولهذا تجب الحرب ضد جمود الجامدين من أدعياء نصرة الدين الذين يحاولون الحيلولة بينه وبين العلم والعمران). ودعا الشيخ طاهر (إلى الأخذ بالنافع من التمدن الحديث مادياً كان أو أدبياً ونبذ الضار منه.
3- وقبل الجزائري برز عبد الرحمن الكواكبي، الذي هرب من حلب إلى مصر، وشنّ من هناك في كتابه (طبائع الاستبداد) الصادر في مصر هجوماً على الظلم والظالمين، مستقياً أمثلته من التاريخ العربي الإسلامي والتاريخ الأوربي. وكثيراً ما استنجد رجال التنوير بما كتبه الكواكبي عن الاستبداد أثناء عراكهم مع المستبدين الظالمين.
4- الشيخ عبد الحميد الزهراوي أصدر جريدة (المنير) التي كان يطبعها في حمص على الجلاتين، ويوزّعها سراً في البلاد السورية. ولكن سلطات الاستبداد الحميدي ضيّقت الخناق على الزهراوي وفرضت عليه الإقامة الجبرية في دمشق بعيداً عن مسقط رأسه حمص. وأثناء إقامة الزهراوي الإجبارية في دمشق كتب رسالة في الإمامة مبيناً شروطها، وأرسلها إلى مصر فنشرتها جريدة (المقطم) بإمضاء (ع. ز.) وهو الإمضاء الرمزي للزهراوي. ثم كتب ثلاث رسائل (مقالات) في (الفقه والتصوف) بحث فيها في أمر الاجتهاد ونقد بعض المسائل، مما أثار عليه نقمة الجمهور. بَقِيَ أن نذكر أن الزهراوي كان، بعد زوال عبد الحميد 1909، عضواً بارزاً في جمعية اللامركزية ورئيساً للمؤتمر العربي الأول المنعقد في باريس 1913. وهو من شهداء الحركة العربية، الذين علقهم جمال باشا السفاح على أعواد المشانق.
******
تعليق لا بدّ منه:
يشيع أنصار السلطان عبد الحميد أن أعداء عبد الحميد كانوا فقط من المثقفين النصارى طامسين مقاومة المثقفين المسلمين للاستبداد أيام السلطان عبد الحميد. والأسماء، التي أوردنا، وهي غيض من فيض، تبرهن أن المتنورين من المسلمين السنّة وقفوا ضد الاستبداد وتعرضوا للاضطهاد والنفي شأن غيرهم من المثقفين العرب التنويريين.
وتجري هذه الأيام محاولات لا تحصى تقول إن الدولة العثمانية كانت دولة الإسلام في جميع أدوارها. ونسوق هنا مثالين يبينان أن هذه الدولة سارت في كثير من تصرفات سلاطينها على نحو مخالف للإسلام، كما يفهمه متنورو الحضارة العربية الإسلامية.
المثال الأول: قيام كثير من السلاطين عندما يعتلون العرش بقتل إخوتهم ونساء أبيهم الحوامل حتى لا يبقى هناك مطالب بالعرش. فأين هذا التصرف المجرم من الآية الكريم: (ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق!)
المثال الثاني: لم يعرف تاريخ الدولة العثمانية أن أحد سلاطينها قام بالحج إلى الديار المقدسة، على الرغم من توفر الإمكانات لديهم لتأدية هذه الفريضة، وهم يستطيعون إليها سبيلاً. هذا الأمر نضعه في عهدة (الباحثين)، الذين سوّدوا كثيراً من المقالات والكتب للحديث عن الدولة العثمانية المسلمة.
ولله في خلقه شؤون...
د:عبد الله حنا من موقع جما ليا