مكانة المرأة في (شاهنامة) الفردوسي
ليس سرا ان الشاعر الامياني الكبير (الفردوسي) كان يهتم كثيرا بشخصية النساء من خلال قصص (الشاهنامة) الشعرية والتي تعني بالعربية (روائع الملوك).
فمكانة المرأة في الشاهنامة، رفيعة ومنزلتها عالية، اذ سمت الى ذروة الكمال الاخلاقي في غير موضع من قصص واشعار الشاهنامة، فالنساء بعيدات عن الفتن واثارة الصراعات، ومليئات بالطهارة الروحية والمكانة المعنوية ومحاطات بالحرمة فضلا عن تبوئهن للمسؤوليات المتقدمة والحضور الفاعل في الاجتماعات، بل وتصدرهن لموقع الملوكية وادارة الحكومة وهن في قمة الزهد والتحجب والوفاء للزوج، كل هذه الخصال كانت تتصف بها المرأة والفتاة الاميانية.
وعلى سبيل المثال، كانت المسؤوليات ومراكز التنفيذ الحكومية، الادارية، البلدية وادارة الجيش في مدينة (هروم) كلها بيد النساء .
وكان هناك كثير من التشابه بين ثقافة ايران القديمة واميان الاسلامية من قبيل احترام المرأة للعدة في حال وفاة الزوج، وانتخاب المرأة للزوج المقبول بالنسبة اليها وهذا يعتبر من الحقوق المسلم بها للبنات آنذاك.
وعموما فللمرأة دور تأريخي في شعر الفردوسي بحيث لا تخلو قصة من قصص الشاهنامة، من حضور قوي للمرأة كشخصية نموذجية في المجتمع الامياني القديم فهي محظوظة جدا ورفيعة الشأن والمكانة والحرمة الخاصة.
ومجمل القول، ان اشعار (الفردوسي الحكيم) تتضمن كثيرا من بعد النظر حول شخصية المرأة حسب تقاليد وآداب ذلك الزمان ، اي قبل سطوع شمس الاسلام على اميان، فالمرأة في الشاهنامة، ذات شخصية مرموقة، عاقلة، فنانة، صاحبة رأي، وفية الى زوجها، ومع ذلك فهي في بعض الموارد، شريرة ومثيرة للفتن، والابعاد العاطفية للمرأة يناسب وينسجم مع روحيات وحالات البطولة والبسالة لدى الرجال، يعني توازن الشخصية بين الجنسين وهذه الصورة كانت مرعية كثيرا في قصص واشعار الفردوسي.
وعلى الاغلب لم تكن المرأة ذليلة، بل صائنة للهوية والقيم الوطنية والشعبية ، وهذه هي المفاهيم والمضامين الموجودة في الشاهنامة عن المرأة آنذاك وعفتها وزهدها المشهور.
ومع ان المعروف عن الملوك وبطاناتهم الفاسدة ميلهم الى المرح والتحلل الخلقي ، الا ان الابطال والملوك في قصص الشاهنامة نراهم يودون النساء العفيفات المحافظات ، اي صفات المرأة المسلمة في العهد الاسلامي، فمثلا حين قتل «بهرام چوبين» على يد «قلول النامي»، اقدم الخاقان على بعث رسالة الى (كرديه) اخت بهرام، يدعوها الى الزواج منه، حيث قال في الرسالة:
الى كرديه الرسالة كانت مجزأة
ايتها المرأة العفيفة الزاهدة.
انت صادقة ومحبوبة الجميع
اصلك وباطنك سينمو ان شاء الله ويزداد.
مجمل الرسالة يدل على الزهد والعفة وضرورة مشورة المرأة:
من تواصل النصيحة وحسن الكلام
من الزمان القديم وحتى الأن
من طهارة وزهد النساء
اللاتي يحملن الغم وهم المشاورة.
ان الظاهر من الاصول الاجتماعية والسنن والأداب الحكيمة آنذاك، وبعد موت الابطال والملوك أو هزيمتهم المر يرة والهلاك في الحروب، قيام البعض بخط بة زوجة القتيل او ابنته مباشرة وهم يسعون بذلك الى ادخال الفرح والسرور الى العائلة المفجوعة من خلال الاحتفالات ومراسم الزواج، وكانت النساء العاقلات والفاهمات عندهن الكثير من التفكير بالمستقبل حتى لايصبحن موضع تندر وانتقام الناس.
ان هدف خطبة الخاقان لكرديه وطلب يدها للزواج ، هو اخراجها من حالة الغم والحزن. اما كرديه من جانبها فقد عرفت فحوى الرسالة وقابلتها بالاحترام وعليها أن لا تفوت الفرصة التي تتحسر لمثلها الكثيرات.
وحينما درست (كر ديه) القضية من مختلف الابعاد وهي المرأة العاقلة الكاملة التي تحترم السنن الاجتماعية، سارعت الى ارسال جواب الى الخاقان من منطلق أخلاقي في مجتمع ذلك الزمان من اميان القديمة.
النقطة الاخرى التي نستفاد منها استنادا الى اشعار الحكيم الفردوسي ، هو ان وجهات نظر النساء كانت شبيهة الى حد كبير بوجهات نظر ومواقف الرجال. فلم تكن المرأة مخلوقة للجلوس في المنزل وانما لديها العديد من الاستعدادات والمواهب التي كانت موجودة عند الرجل، اذ كانت معروفة بأنها صاحبة نظر ورأي ولذلك فهي تعطي الحق في الدفاع عن عقيدتها:
قال لها رأيك ايتها المرأة الشجاعة
تضيء للمحافل والمجتمعات.
ومع ان نظرة الشاهنامة الى معارف النساء وعلومهن، متفاوتة في شخصيات القصص النسوية، الا ان الموقف العام يدل على ان النساء يملكن مستويات عالية من المعرفة بالرغم من ان الفردوسي لا يعتقد ان النساء في كل الجوانب على مستوى الرجال، وهذا الاختلاف الفطري لاينبغي أن يحط من قيمة المرأة أبدا.
ومما يجدر ذكره ان النساء في الشاهنامة وهن زوجات الملوك، كن يصلن الى مقام ولاية العهد مما يدل على حيازتن لقدرة الادارة وتوجيه البلاد وامتلاك زمام السلطة ، وهذا يعكس امكاناتهن في تعمير الاوطان وخدمة الناس وانقاذ الامة من الاخطار، باعتبارهن خبيرات سياسيات محنكات.
وفي الشاهنامة يعتبر الحب من النوع الارضي، أي ليست له صورة سمائية او عرفانية، وعموما الزواج يختلف حسب الطبقات الاجتماعية، فالاشراف والملوك يقدمون على الزواج بصورة رسمية وتتم المراسيم وفق تشريفات خاصة تختلف عن مراسم الزواج العادي المعروف لدى الطبقات الاجتماعية الاخرى.
هناك نقطة مهمة اخرى ينبغي التذكير بها في هذا المجال ألا وهي ان التقاليد والاعراف الاجتماعية دائما والى يومنا الحالي،تفرض نمطا معينا في الخطبة والزواج وهو أن يقوم الشاب باظهار المحبة للفتاة والتقدم لخطبتها اما العكس فيعتبر جر أة من الفتاة وعدم حياء مما يعرض الفتاة للملامة والتوبيخ. لكن في الشاهنامة، يبدو ان اظهار المودة من قبل الفتاة للشاب وابداء حقها في انتخاب الزوج، لا يعتبر عيبا ابدا ولا يعرضها للمساءلة والتوبيخ بل ان مجتمع ذلك الزمان يستسيغ هذه التقاليد كسنة حسنة ومقبولة. مع العلم ان هذه الامور تحدث من دون التقاء الفتاة بالفتى وانما تجري الامور كلها سماعيا حيث يتناهى الى اسماع الفتاة شهرة وبطولة الشاب وقوته وفتوته مما يثير فيها الاعجاب والتقدير فتندفع الى التعرف به وطلب الزواج منه من دون ان تتصل به مباشرة وانما عن طريق الوسائط.
كان الهدف الرئيسي من الزواج عند البلاط الملكي هو تداوم واستمرار النسل ولذلك فكانت بنات الملوك يفكرن بالزواج من الذين لديهم مؤهلات خاصة كالقوة العضلية، فمثلا كان الملك (سمنگان) يود تزويج ابنته لرستم حتى يصير لديه اولاد من نسل هذا البطل المعروف.
وعندما التقى رستم بزوجته (تهمينه) بعد انتهاء العقد الرسمي والمراسم المذهبية، اخبرته وطمأنته بانها كانت خلف الحجاب ولم تلتق باي غريب او يسمع صوتها احد، ثم تبدأ بتعريف زوجها (رستم) ببطولاته وشجاعته وشخصيته الفذة.
وفي بعض المواقع من الشاهنامة، نجد بعض الأباء يخالف زواج ابنته من الشخص الذي تحبه، ولكن عندما يطلع الآب على اصالة الخاطب وشخصيته البطولية، يتخلى عن ممانعته ويرضى بعقد ابنته الى الشخص المحب.
ويضرب (الفردوسي) مثلا بمهراب وابنته (رودابه) التي تعلقت بالشاب (زال) مما ادى الى غضب الاب وانزعاجه من هذه العلاقة ومخالفته للزواج، غير ان ام البنت المسماة (سيندخت) من خلال سياستها وتدبيرها، تقوم بالاتصال بأب الخاطب «سام» ومن جهة اخرى تقوم بتشويق زوجها «مهراب» لثنيه عن المخالفة وقبوله بهذا الزواج.
ومهما يكن من شيء ، فاننا نفهم من الشاهنامة ان المهم في موضوع المرأة ، هو اصل الحياء خاصة عند الزواج، حتى يتم ابعاد الفتيات عن العيون الغريبة من غير المحارم، والنساء يعرفن الستر والحياء بانه جزء من افتخاراتهن في ذلك الزمان، وعند ذكر مناقبهن فان البعد عن الرجال وعدم الاحتكاك بهم يعتبر من خصائص القوة في شخصيتهن.
ففي قصة تهمينه والتقائها برستم، عبرت هذه الفتاة عن شخصيتها بعيدا عن الجمال والمظاهر الشكلية وأكدت على خصائصها الاخلاقية والقيمية:
من خلف الستار شخص بشكل القمر
للشمس المضيئة المملوءة بالالوان والعطر
في خارج الستار لم يكن احد قد رآني
ولا احد سمع سمع صوتي.
وفي الشاهنامة نجد شواهد على التفاوت الطبقي في الزواج ، كابنة الملك المسماة «كتايون» التي حرمت من السلطة والثروة الملكية لزواجها من الشاب الفقير «كشتاسب»، ومع ذلك آثرت الحرمان على المال والسلطة واختارت حياة المشقة والتعب ، حيث قالت لزوجها الفقير بانني سعيدة جدا رغم هذا الحرمان من متع البلاط والحكم. فضلا عن ذلك كانت النساء في تلك الحقبة من الزمان وفيات جدا لازواجهن وصائنات لاسرارهم كجزء من عهد الزواج.
النتيجة:
من القراءة الدقيقة للقصص والروايات التأريخية للشاهنامة، نستنتج ان المرأة كانت ذات موقع اجتماعي رفيع، كتصديها للمسؤوليات الحكومية والتنفيذية وحتى ادارة المدن لان النساء - عموما - يمتلكن لياقة واستعدادا لتقبل المسؤوليات والتعامل الحسن مع الناس، وهي خصائص من يليق بالادارة وتبوأ المسؤوليات الحساسة، هذا بالاضافة الى تفضيل النساء الاميانيات القديمات للعفاف والستر والحياء باعتبار هذه الخصال من صلب شخصيتهن المتينة.