على ضفاف قصيدة


“رسالة إلى الحلاج لم تقرأ بعد” للشاعر إسحق قومي
أحمو محمد الأحمدي
المغرب
- توطئة:
إن أول ما يجب على الدارس لقصيدة إسحاق قومي “رسالة إلى الحلاج لم تقرأ بعد” هو الوقوف وقفة تأمل وتأن عند العنوان الذي يحتاج إلى أكثر من ذلك باعتباره المفتاح والباب الرئيسي للعبور إلى أعماق النص حيث روحُ الحلاج تَسْبَحُ وتُسَبح.. تَسبح في بحر من الدلالات الصوفية الرقيقة الكريمة.. وتُسبح بحمد خالقها وبارئها كما كانت تفعل في حياة جسدها من خلال قلب شاعرنا إسحق قومي الذي يفيض محبة وإجلالا لله عز وجل ولعامة خلقه تعالى.
هذا وقد اخترت هذه القصيدة لدراستها لسببين رئيسين هما:
الأول: الشوق إلى معرفة ما بداخلها باعتبارها رسالة إلى كبير المتصوفة المشهور الذي أعدم بعد أن صدر عنه كلام مبهم في ذات الإله يخول لمن سمعه أن يصنفه في قائمة الزنادقة الملحدين والله أعلم.
والثاني: التوق إلى إبراز ما تفيض به القصيدة من الصور الشعرية الروحية الرقيقة الممتزجة برقة قلب الشاعر وطهارته.
وثمة سبب ثالث لم أذكره مع السببين السالفين لعظمته ولوجوب تفرده وهو محبتي الكبيرة لشخصية الشاعر إسحق قومي الذي تعرفت عليه من خلال ما ينثره من جميل الإبداع على صفحات المنتديات الأدبية الكبرى عبر النت.
فإليه وإلى أفراد عائلته أهدي هذه الدراسة المتواضعة التي أتمنى أن تنال إعجابهم رغم عجزها عن الإلمام بكل ما تختزنه القصيدة من رائع الصور وبالغ الأدب وجميل الآيات الشعرية العطرة.
كلمات قبل الكَلِم
ككل الدارسين والباحثين والنقاد في مجال الأدب، يجدر بي – ولابد- أن أذْكُر وأذَكرَ بأهم النقط الأساسية التي اتخذتها كمجال للدراسة والتحليل في القصيدة، ويمكن تلخيصها وملامستها من خلال بعدين أساسين هما:
** / البعد الجمالي الشعري
** / البعد الجمالي الروحي
ولا يفوتني أن أشير إلى شيء مهم – بل هو في غاية الأهمية – وهو كوني لا أنظر إلى القصيدة التي نحن بصدد دراستها بعين العروضيين الخليليين ولا أزنها بميزانهم وإن كانت خليلية الأصل والفصل والوصل بالرغم مما فيها من تجديد في البحر، فهي قصيدة أكثر أبياتها نظم على أساس تفاعيل بحرين أصليين من البحور الشعرية الخليلية وهما: الوافر والهزج، ولهذا البحر الناتج عن تفاعل بحر الوافر وبحر الهزج تسمية محدثة وهي: بحر المنبسط، وقد احتدم الصراع في عدد من المواقع الأدبية مؤخرا حول من كان وراء هذا البحر، أهو شاعرنا الكبير إسحق قومي؟ أم هو الدكتور أحمد فوزي؟ وكان الشاعر العراقي الكبير محسن كريم قد بحث في ذلك وقام بتحليل لقصيدتنا هذه فاستنتج أن الشاعر إسحق قومي قد وفق في نظم قصيدته على البحر المحدث المسمى المنبسط رغم صعوبة ذلك، إلا أنه أشار إلى كون الدكتور أحمد فوزي هو من مزج بين الوافر والهزج واشتق منهما بحرا أسماه المنبسط، وربما لم يعلم – فضيلة الأستاذ كريم محسن- أن الشاعر إسحق قومي كتب في هذا البحر ونظم فيه منذ زمن بعيد، إلا أنه لم يعلن عن ذلك في انتظار انتهائه من الدراسة التي يعدها حول ثلاثة بحور أحدثها قصد التجديد وليس التحريف في الموروث الخليلي – وله كامل الحرية في ذلك مادام يحترم آليات اللغة وضوابط الثقافة العربية الأصيلة- وهذه البحور هي: الكامل المحدث والوافر المحدث والمنبسط..
وقصدي في ذكر ما ذكرته هو أن يعلم القارئ أنني لا أبحث من خلال هذه الدراسة في بحر القصيدة وتفاعيلها، وهل هي موزونة أم لا؟ وهل يعتبر هذا الخروج عن المعهود في صياغة القصيدة خروجا منكرا؟..
ولكنني أنظر إلى القصيدة على أنها قصيدة روحية بديعة من شاعر كبير معروف مملوءة بالصور الشعرية الفريدة تستحق الدراسة والتحليل، هذا وإني على علم تام بأن القصيدة لم توف بعد حقها، وإني – رغم ما بذلته من جهد – لعاجز كل العجز عن إدراك كنهها البعيد العميق وخصوصا من خلال البعدين اللذين اتخذتهما كخلاصة للنقط المتخذة في القصيدة للدراسة والتحليل، وما ولن أبرئ نفسي، وهذا جهد مقل، إن كان خيرا فخيرا، وإن كان غير ذلك فاللهَ نسأل العفو والرحمة والحمد لله رب العالمين.
***
إركب معنا..
- أولا
*/ البعد الجمالي الشعري:
إن ما تزخر به هذه القصيدة من آيات الجمال الشعري ومن صوره الدقيقة العميقة، لغةً وتصويرا وفكرا، وتركيبا، وإبداعا.. لشيء كثير، نكاد نُجْمِل ذلك في حديث الشاعر أثناء القصيدة عن عالمين مختلفين، عالم الغيب وعالم الشهادة، عالم الروح وعالم المادة، رابطا بينهما بطريقة أدبية عجيبة، يظن القارئ لها/ للقصيدة/ لأول مرة حين يجد معجم العاطفة والذوق منثورة كلماتُه
بين ثنايا القصيدة وحين يقف على: العشق، الهوى، الخمر، الجمال، الشذا، الكأس، الوجد، السهر، العشاق، الأحلام، الحب، مواويل، الصبابة، الروض، النسائم، الصب، الشوادي، الأغاني، عشتار….. أنها/أي القصيدة / تحكي عن قصة حب وغرام بين رجل وامرأة.. ولا يمكث إلا قليلا لِيدركَ أن الشاعر يعيش في عالم الروح بذوقيه الروحي والمادي حين يسافر عبر: الوحي، الروح، (الحلاج)، التصوف، الهدوء، بقايا الروح، بنات الروح، الصمت، معبد، الروح الولهى، الله/ الوهاب، المعاني، الشهداء، حب الواحد، الغفران، جلجامش…
من هنا.. ندرك مدى براعة الشاعر في صناعة الصور الشعرية من خلال جماليات العالمين – الروحي والمادي -.. كما ندرك كذلك مدى تمكن الشاعر من آليات الإبداع والتخييل وفن التعبير وفن توظيف الجمال بشتى ألوانه وأشكاله.
وفي ذكر ما ذكرناه، لم نكن قد خرجنا عن إطارنا المحدد ” البعد الجمالي الشعري ” في قصيدة ” رسالة إلى الحلاج… ” إذ من المؤكد أن الجمال كل الجمال مكَوَّن من مكوِّنين أسايين هما: الروح والمادة.. ولا جمال بغيرهما، لذلك فصلنا في ذكرهما وذكرنا ما يشير إلى كل واحد من هما من جميل الكلمات الشعرية ورائع الألفاظ الرقيقة لنصل في الأخير إلى ما كنا نود الوصول إليه من أن القصيدة مفعمة بالجمال.. مفعمة بالروعة.. مفعمة بالسحر والجلال الشعري..
إننا ونحن نرى الشاعر يخاطب المجهول:
ممالك صمتكِ أقفرت نواديها
وأزهر غيثك سرا بما فيها
نحس وكأننا في عالم الأحلام والرؤى التي لا يعرف معناها ولا يستطيع تأويل ما تحمل من الرموز وما يراد بها من مقاصد تأويلا صحيحا إلا صاحبها، وأما النقد كيفما كان هذا النقد وأيا كان فهيهات هيهات أن يدرك مراد الشاعر الروحي وأن يصل إلى أعماق رؤاه وإشراقاته.
وحين نسمعه يقول:
لأنتِ من جمال الكون أنجمه
وقد فاح الشذا بالكأس صافيها
نكاد نجزم بأن الشاعر بين شيئين لا ثالث لهما، بين: المرأة المحبوبة والكأس المختومة بشذا الصهباء الحالمة.
إلى هنا.. نصل إلى نهاية البعد الأول، مع العلم بأننا لو رحنا نعد الصور الشعرية في القصيدة، ونتتبع خطاها وآثارها، لما استطعنا الخروج منها، ولا كَفَتْنَا هذه الصفحات، ولكن يكفي ما أشرنا إليه من أن الجمال الشعري في القصيدة مبني على أساسين: جمال الروح وجمال المادة، وما ذكرناه كذلك من قيم كل منهما، وخير الكلام ما قل ودل، وموعدنا وموعدكم في بُعدنا الثاني الذي أسميناه:
- ثانيا
*/ البعد الجمالي الروحي:
إن كل من قرأ هذه القصيدة أو حاول دراستها أو تحليلها سوف يدرك وسوف تصل به دراسته وتحليله إلى حقيقة: غالبية الروح في القصيدة على المادة، وغالبية عالم الغيب على عالم الشهادة، وما تكرارُ كلمة / الروح – في القصيدة أكثر من خمس مرات وما إلى إليها من وحْي وعشق وتصوف ومعبد… إلا آية على ذلك وشاهد ثابت على أن الروح هي الغالبة في النص، وإن كان هذا يعبر عن شيء فإنما هو يعبر عن رقة روح الشاعر وطهارتها وصفائها وشفافيتها وعلو كعبها.
وقد أشرنا في خواتم البعد الأول إلى أن الشاعر إسحق قومي لم يُبِنْ عن قصده ولم نفهم من أبياته الأولى إلا أنه يخاطب مجهولا، سواء كان هذا المجهول عاقلا مدركا للخطاب / رجلا / امرأة / عالم الغيب…. أم غير عاقل / الطبيعة،… وشيئا فشيئا ندرك مراد الشاعر ومخاطَبَهُ.. ولكن الشك لا يزال يساورنا بين الفينة والأخرى، ويردنا اليقين إلى شطه كلما أبحر بنا الشك نحو المجهول..
ولا نزال هكذا بين شك ويقين، حتى نسمع الشاعر من جديد وهو يشدو:
جبلتُ الروح من وجد ومن سهر
وصرعت بيوت الشعر أقفيها
فيبدو الذي ماخلناه يبدو.. إنها الروح، هي العاشقة، هي الحالمة، هي المبدعة، هي المحلقة في سماء الغيب، تحيى ولا موتَ، وتحلم ولا نومَ وتغني ولا صمتَ وتبني ولا هدمَ و:
تهيء في مدارات الهوى وطنا
وتسكنني إذا جئت منافيها
ويعلن شاعرنا عن ما يجمعه بروحه وما يربطه بها، فحينا يسقيها بخمر/عبادة الفجر:
أنا بحارها في عشقها دمث
خمورٌ من بقايا الفجر أسقيها
وأحيانا أخرى تسقيه وترويه اعترافا بالجميل:
سقتني العشق من كأس مدلهة
ورحت ذلك الحلاج أرويها
وبالكلمات الصادقة، يؤكد الشاعر أبدية الروح وعلوَّ منزلتها إن وجدت من يرعاها ويزكيها، فيقول على لسان الروح:
أنا في الكون والكون بي ابتدأ
إذا غبت فمن يعشب بواديها
ويا ما أحيلى كلمات الصدق، كلمات الصفاء، حين توقَّعُ بلسان صادق وبقلم باسق، إنها الحقيقة، إنها الصراحة، تلك التي نبحث عنها منذ بداية إبحارنا إلى الآن، منذ أن نادى المنادي أن اركب معنا…
تأتي الآن في أغنية يعزفها الشاعر إسحق قومى على وتر الطهارة والصدق:
تصوفت وصلصالي ينازعني
وأبدي العشق في جلِّ معانيا
يا إسحق، ما أروعك وأنت تشدو بتراتيل الحلاج، ما أجملك وأنت تروح وتغدو في عالم الأشعار ببردة الحلاج، ما أصدقك وأنت تحطم خرافة النفس أمام عرش الروح كما كان الحلاج يفعل:
خرافة نفسي في نفسي أحطمها
وأبدع وحيها.. أسقي فيافيها
ويأتي الصَلْبُ، فيُصْلَبُ الحلاج، ويَصْلِبُ الشاعر الحبَّ في عينيْ روحه، ويكون الشاعر آخرَ من يُصْلَبُ على يدَيْ الشوق والحنين:
صلبتُ الحب في عيني أغنيتي
ورحت دمعة تهجر مآقيها
……………………..
صلبني الشوق في فجر صبابتها
على أعواد ناقوس بواديها
وحنت روحي الولهى لمقدمها
متى يا أيها الوهاب تعطيها
ويرحل الحلاج، وتأتيه رسائل التعزية من كل أقطار الدنيا، قَرَأَتْهَا روحُه واحدةً واحدةً، غيرَ هذهِ الرسالةِ ” رسالة إلى الحلاج لم تقرأ بعد ” التي أودعها الشاعر إسحق قومى أسرار روحه وطهارتها، ووقَّعها بريشة الحب وصفائه، وترك إمضاءه على الظرف:
بحب الواحد الفادي أرتلها
عسى أن يغفر الرحمن عاصيها
هي عشتار في نفسي تصالحني
وجلجامشْ إذا بالعشب يغريها
هي الشهداء للحق إذا انتقلوا
وأرجعوا شمعة الروح لباريها
هي الآيات في الأجيال قد حفرت
متى يا فجر تَشرقْ في دياجيها؟!!
توقيع:
ماكنت أحْسِب أني ناقدٌ لبقٌ ** إلا بُعيْد انتهائي من دراساتي
هي اللآلئ في كتْبي أرصِّعُهَا ** إجازةً، إن أبى قومي مجازاتي
أحمو محمد الأحمدي
شاعر وأديب من المغرب