مختارات من الشعر
القباردي الشركسي المعاصر
"حفنة سوناتات"
الريح الغاضبة تطرق نافذتي
وتفتح بابي بغضب
ها قد أصبحت غرفتي مركزاً للعبور
وبدأ رذاذ الأزمنة الغابرة يتساقط
***
لا أستطيع أن أوقد مصباحي
مع أن النوم قد جفاني
وأسمع صوتاً يناديني تهتزُّ له الغرفة،
أعدوٌّ هو من ينادي أم صديق؟!
***
الزمان لا يحمل ديناً لأحد، إنه يمضي
يمضي و ينقضي دون أن يداري أحداً.
لقد سقطت حبات الكرز قبل نضجها عن الشجرة
وهاهو جذعها يذرف الدموع سراً..
***
و من بعيد يصل صدى غناء شجي متواصل
يعيد إلى الذاكرة ماغرق في بحور النسيان
***
أسمع أغنية من بعيد، أسمعها متواصلة
و أجلس خائفاً، مطرقاً برأسي
وفي الرأس تدور آلاف الأفكار
دون أن تترك لي لحظة للنعاس
***
كلما نظرت عبر دروب التاريخ
التي قطعها شعبي أزداد يقيناً من شيء واحد :
يا شعبي لست أنت من يُشَّبَهُ بالفولاذ،
إنما الفولاذ هو ما يمكن أن يشبَّه بك
إذا صدئ الفولاذ يمكن إعادة البريق إليه
أما إذا اسودَّ، وجه الإنسان فلا يمكن تنظيفه أبداً.
أيتها الريح لم كلُّ هذا الضجيج الذي
يراكم الأفكار السوداء على صفحة الروح.؟
***
تلّبدي ما شئت أيتها الغيوم السوداء فوقي
فمن سمائي يطلُّ هلال مضيء
***
يطلُّ هلالٌ مضيء من سمائي
وتزدحم غرفتي بمائة قرن.
أحدها يحصد سنابل القمح بمنجل
ويصوِّب آخر نحوه بندقية
***
لماذا يحدث مثل ذلك فوق الكرة الأرضية
على رقعة ضيقة من هذه الأرض الواسعة ؟
لماذا يأكل الجشع قلب الإنسان؟
مع أن حياته قصيرة بهذا الشكل الفاجع ؟!
***
أيحدث ذلك من قلة الحب، الدفء،
الكلمات العذبة، الإنسانية، الشجاعة على هذه الأرض..؟
لماذا يشعل الإنسان الحرائق على الأرض
لماذا يحاول أن يطفئ ضوء النجوم؟!
تهوي من السماء وهي تحرق ظلمات الليل
دون أن يستطيع أحد الإمساك بها
***
أشرقت شمس الصباح بحنان
وهي تحرق ظلمات الليل بأشعتها
وكانت الذكريات قيداً تحرَّرت منها
ونهضت أستقبل نهاراً وليداً
أجوب براريك، ضفاف أنهارك يا وطني
وينصت القلب لأغنيات الفرح التي تردِّدها،
وبعد أن اغتسلت عطورك بندى الصباح
أخذت تنشر رائحتها بسخاء
***
والقمم التي كانت صامتة منذ الأزل
بدأت تجلو أصواتها بترداد الصدى
وارتفعت اللقالق في السماء وكأن حبلاً يشدّها،
تقطع أشعة الشمس تارةً، و أخرى تعيد وصلها.
***
لو كان لي جناحا لقلق
لارتفعت هونا وحلّقت في السماء
***
كنت ارتفعت هوناً وحلقت في السماء
لو عرفت أن الريح تقبل بي فارساً مرافقاً
وكنت جبت فيافي السماء المشدودة
و أنا أبحث عن الطرق الضائعة
***
أبحث عن معاقل الأبطال الذين لم يعرف الخوف
طريقه إلى قلوبهم حتى في مواجهة الموت.
يا أبناء شعبي، من الذي غدر بكم و طعنكم من الخلف،
دون شفقة، عند مفارق طرق الحياة؟!
***
إن ظلالكم مازلت تتأرجح فوق هاوية الجبال الشاهقة،
ومن الوديان السحيقة تنطلق أصوات صراخ.
إن أمجاد أولئك الذين قاتلوا من أجل ضوء الحياة
ستزيَّن بيارق مستقبلي إلى الأبد
***
لو عرفت أنني أستطيع أن أعيد إليكم شبابكم
لحلَّقت بعيداً، بعيداً، بهذا الأمل وحده
***
لحلّقت بعيداً بهذا الأمل وحده،
بحثاً عن بدايات حياة الإنسان
فليس بين القرون من لا يعرفني،
وليس بينها من لا يستطيع أن يقدِّم لي المشورة
***
لكن الضباب، الضباب المنتشر في كل مكان،
هذا الضباب ينوخ بثقله بدلال فوق صفحات التاريخ
وتشرق الشمس فَيْنَاً شاحبة،
وفي صفحتها يرتسم قلق كبير
***
ويخيَّل إليَّ أنها تقول لنا :" حان الوقت"
أيُّها الناس،
لأن تعقلوا و تلقوا بأسلحتكم،
فأية مصائب هي التي تبحثون عنها
دون أن تجدوا وقتاً لزراعة الحبوب؟"
***
و أزداد عجباً من هذه الشمس التي تشرق منذ الأزل،
أية روح جميلة، و أية طفولة استطاعت أن تحملها إلى اليوم.
***
أية روح جميلة، وأية طفولة يتمتع بها إلى اليوم،
عمي الذي انقصف عمره في الحرب الأخيرة.
ضاع قبل الأوان، قبل أن تتحقّق أحلامه
ضاع في الحرب ولا أحد يعرف مثواه
***
كم من الناس يرقدون تحت الأرض متجاورين
بالرغم من أن قروناً طويلة تفصل بينهم،
و أقف مطرقاً مجفلاً من هذه الفكرة
و تجمد الدمعة التي تجمَّعت على صفحة العين
صامتة هي السماء، الأرض، وتقف شاهدة القبر
حارساً فوق قبوركم دون أن تذرف دمعة.
وتنبت الكروم حولكم في الفيافي،
والعين التي تفجَّرت هناك ماؤها سلسبيل
***
ولأن ماء العين السلسبيل هدية منكم
فإن بطولاتكم ستكون شواهد لي وعلامات للطريق
***
إن بطولاتكم علامات تضيء دربي
ومن سخاء نفوسكم تغتدي روحي،
و كلما قصفت الرعود و أضاءت البروق
أحسُّ أن الكون لا يذرف دموعه إلا من أجلكم
أنا لم أخض حرباً، وطوال عمري
لم أصوبِّ بندقية صوب إنسان
ولكنني أفكر في الخفاء أنني
ضحية حرب لم تعرف معنى الرحمة
***
سيكتسي العريان يوماً،
ولا محالة من يومٍ يأتي، يشبع فيه الجائع.
أما إذا وقع شعب بأكمله عند السفوح
فإن آلام الجراح تدوم قرناً كاملاً
***
كم كنت أبياً يا شعبي.. ولكن،
رصاص العدو أصابك غدراً فهويت.
***
أصابك رصاص العدو غدراً فهويت
ومع أنك لم تكن تريد الأذى لأحد
فما أكثر الذين كانوا يبحثون عن أذاك،
مصِّرين على إراقة دمائك على أديم الأرض
**
سيأتي يوم تزول فيه الأسلحة عن الأرض
وستحرق نار البشرية كل أنواع الظلم
ولابد أن تأفل شمس أولئك الذين،
لم يعرفوا معنى حب الإنسان للإنسان
***
ستزهر الأشجار عندها دون أن تخشى الأدخنة السوداء
وستبقى ثلوج الشتاء بيضاء نظيفة حتى تذوب في الربيع
ولن تضيع آثار أقدامكم من درب التبان
ولابد من يومٍ نقطع فيه هذا الدرب معاً
***
عندها لن يستطيع أحدُ منكم أن يقول
أنني لم أعش معكم في تلك الأيام
***
لم أكن أعيش على الأرض في تلك الأيام
ولم أكن حاضراً عندما جردتم السيوف.
الجبال التي رأت كل ذلك صامتة
مع أن صوركم هي التي جمدت على جدرانها
***
أنظر إليك أيتها الجبال، فتنظرين أنت نحو السماء
و أنظر إليك ثانية فأراك مطرقة تنظرين إلى الأرض..
انطقي أيتها الجبال وقولي لي أين كنت،
عندما وقع كل هذا الظلم بشعبي؟!
***
جبالنا العالية صامتة، أنظر نحوها من جديد،
فلا أرى على جدرانها سوى آثار طعنات التاريخ.
إذا كثرت الطعنات على إهاب الجبال
فقد تتفجَّر براكين في يوم من الأيام
يُخَّيل إلي أن السفن بانتظاري منذ زمان بعيد
وهاهي الأمواج تتقاذف زورقي
ومن أعماق البحر يتردّد صدى أُغنية
مفعمة بالحب و العنفوان :
" سترتاح أرواحنا أكثر إذا رقدنا هنا،
في هذا البحر الذي ترفده أنهار الوطن،
لن تعتب علينا الأجيال القادمة، فحياتنا الحافلة
أنهيناها هنا بعد أن فعلنا ما قدرنا عليه"
يخَّيل إليَّ أن كلماتكم الأخيرة، كانت من هذا القبيل،
و أنكم لم تتعلقوا بالوهم عندما سدّت الطرق في وجوهكم.
وكان ذلك جزءاً من شجاعتكم اللامتناهية
وكان ذلك آخر ما يستطيع أن يدافع به الإنسان البريء عن كيانه وحبه..
وها أن الآن أجوب في أنحاء البحر
من أجل أن أعيد إليكم اعتباركم
***
من أجل أن أعيد إليكم اعتباركم
أبدأ رحلتي أيها الجنود المجهولون.
فمن أجلكم أنتم الذين لم تخفضوا رأساً للعدو،
مازال ينبض قلب الوطن..
أتمشَّى في أرض الوطن على شارع الربيع العريض،
كل شيء يضحك، وها قد أزهرت أشجار الكرز.
وهاهو طفلٌ تفجرت ضحكاته،
وهو يناغي على صدر أُمه
الريح تضرب مرة أخرى نافذتي
وتفتح باب الدار تناديني للرحيل
***
الريح المتعبة تفتح بابي، تناديني للرحيل،
من يدري،ربما كانت تعدو دون أن تترجل
عبر القرون وعبر السنين
وقد وصلت إلينا للتو تحمل شيئاً من أخباركم
عندما تصفِّر الريح بعنفوان عبر الأسلاك المغلفة بالجليد،
و المشدودة إلى أعمدة الطرقات،
فإنها إنما تخاطبنا نحن بكل جدية،
أنصتوا، ألا يشبه صوت الأسلاك صليل السيوف !
تتلاحق أصوت دوّي القطارات
وَتصَغر الكرة الأرضية عندما تنطلق الطائرات.
ومع ذلك فإنني أحسُّ أن هذه الأرض لا تهتز..
إلا من أصوات سنابك الخيل
إنّ جراح الأرض مازالت مترعة بالملح
ومازالت تؤلم صفحات تاريخنا.
***
التاريخ نخب بطولة بالنسبة لنا، ولكن الزمان
كم غصناً قصف من صفحات تاريخنا؟
وكل غصنٍ كالفولاذ المسقي كان بطلاً لاتلين له قناة
ولكن من الذي استطاع أن يروِّض الزمان
لم يستطع أحدٌ أن يروِّض الزمان
ولكن عجوزاً شركسياً قال منذ سنوات طويلة :
"عاقل من يستطيع أن يسامي عصره"
و أصبحت كلمات جباغ مضرب الأمثال إلى اليوم.
بمثل هذه الطريقة كان يفكر الأجداد.
ولو لم يسرج أولئك الأجداد خيولهم،
ولو لم يبذروا النجوم في درب التبان
هل كان بإمكان الطائرات اليوم أن تخترق الغيوم ؟
وتضرب الريح الغاضبة نافذتي بقوة،
وهي تذكِّرني بكل هذه الأشياء دفعة واحدة
***
غاضبة تضرب الريح نافذتي بقوة
و أسمع صوت غناء متواصل لا ينقطع
ومن سمائي يطل هلالٌ مضيء،
يحرق بنوره الفضي ظلمات الليل.
كنت سأنطلق الهوينا محلقاً في الفضاء،
بهذا الأمل الوحيد الذي يقوم مقام الجناحين
مازالت بطولاتكم شواهد الطريق على دربي
وهي ملء العين وملء الأسماع وفي نقاء الطفولة
عندما انهمر رصاص الأعداء عليكم يُجندلكم
لم أكن أنا على الأرض في تلك الأيام
وها أنا الآن أبحث عنكم في قاع البحر(1)
محاولاً ما استطعت، أن أعيد اعتباركم
ويفتح تاريخنا البوابة، يناديني للطريق
إن التاريخ بالنسبة إلينا نخب بطولة
***
مازالت قصيدتي لم تكتمل بعد
ومازالت أغنيتي بدون لحن
الأمل هو رفيق دربي الوحيد
وهو وحده لباسي وهندامي
وإذا لم أستطع أن أضع السرج إلى الآن
على هذا الأمل، الحصان الجامح.
فأنا لا ألوم الحصان الأصيل" الألب".
لأن القدرة على ركوب الخيل منوطة بالرجال.
1 - يقصد الشاعر البحر الأسود الذي غرق به آلاف المهاجرين
شعر: ورزاي أفليك -

من ديوان" رقصة الغجر" نالتشك 1985

صخرة الدموع
في الشمال من مدينة طوابسة،
وعلى شاطئ البحر الأسود،
تنتصب صخرة عالية اسمها "صخرة الدموع"
وبها يرتبط الكثير من ذكريات التاريخ الشركسي.
كم من القرون عبرت وأنت تنتصبين هناك
شاهداً على تاريخ شعبي؟!
وكم من مرة ارتطمت بك الأمواج
غاضبة، صاخبة تحاول النيل منك
"يا صخرة الدموع"
"يا صخرة الدموع"
ويقولون أن الدموع التي تنساب منك باستمرار
هي دموع امرأة شركسية
ومهما بلغت حدة أشعة الشمس المسلّطة عليك
لا تستطيع أن تجفِّف منها دمعة واحدة
"يا صخرة الدموع"
"يا صخرة الدموع"
يخيل إليَّ تارة أنك مرآة للبحر الأسود
وأخرى يخال إليَّ أنك ترس لشاطئ البحر
أيتها الصخرة التي لا تكف سياط الأمواج الغاضبة عن النيل منها،
هل سأراك يوماً وقد توقَّفت عن البكاء؟!
"يا صخرة الدموع"
"يا صخرة الدموع"؟
كم من السفن تساقطت ظلال أعلامها السوداء
على مرآة جبينك المشرق
وكم من الليالي سهرت وأنت تعصرين قلبي
وتذرفين الدموع يا صخرة الدموع
"يا صخرة الدموع"
"يا صخرة الدموع"
عند ضفة شابس
أيها النهر الجبلي الصغير
ياغزالاً سريع الجريان
متمرداً كحصان شركسي لم يعرف القيود بعد،
ماالذي جعلك بهذه الحال التي لا أستطيع معها
أن أعرف ما إذا كنت تضحك أم تبكي
يخيل إليّ أنك إنما تنبع من صدر الأم،
فما الفرق بينك وبين حليب الصدر؟
هل أعطاك أجدادنا هذا الاسم
بعد أن سقوا خيولهم من نمير مائك
ثم قدّموا لك غابة السنديان هدية
لقاء الاسم الذي منحوك إياه
إنها تذكار من الأجداد لا أملُّ منه،
وعندما تتلاعب الريح بأغصانها
يُخيل إلي؟ّ إنها إنما تتناجى بلغتنا الشركسية
أُيُراودك الحنين أيُّها النهر
للفرسان الشراكسة الذين كانوا يرتاحون عند ضفافك
أو للشركسيات اللواتي كنّ يأتين للانتهال من مياهك
وهنّ يتهادين بشعورهن التي تصل إلى الأرض؟
يُخَيَّل إليّ أيُّها النهر أنك مازلت تجري وراءهم
وأنت تصهل كمهر فقد أمه
ويخيّل إليّ أيُّها النهر أن أحزانك،
تصبح بلا نهاية عندما
لا تجد أحداً منهم في طريقك
وعندما يلقي البحر الأسود بأمواجه العالية عليك
كحبال مجدولة لتقييدك وكبح جماحك.
تتوقف عن البحث عن الفرسان في أسى
وتعض على أحزانك في صمت
شعر: غوبجوقة ليوان
من ديوان "ألحان العصر" نالتشك 1980
ترجمة: ممدوح قوموق