شذرات من كتاب( فيه ما فيه) لجلال الدين الرومي (3)


اطلبوا من الله ..!
علم أحد الآباء ابنه الصغير منذ شهوره الأولى أن يطلب ما يريده من الله تعالى، وهكذا كلما بكى الصغير من أجل حاجة، والده أن يطلبها من الله تعالى، فيقول الصغير يا الله أعطني كذا، فكان الوالد يسرع بتلبية طلب صغيره في الحين، استمر الأمر لوقت طويل، إلى أن جاء يوم خرج الأب والأم لحاجة وتركوا الصغير لوحده في البيت، احتاج الصغير إلى الطعام فلم يجده وكما عوده والده قال : يا الله أريد طعاما، وفي الحال استجاب له ربه فأنزل إليه ما يكفيه من الطعام. لما عاد الوالدان من الخارج، سألته أمه: ماذا أكلت يا ولدي؟ فأجابها أكلت كذا وكذا، فسألوه ومن أين جاءك؟ أجابهم: أحضره الله تعالى ..في تلك اللحظة، قال الأب: الحمد لله الذي أوصلك إلى هذا المقام، ووهبك الاعتماد عليه والثقة به.

إثبات ونفي

ليست كل المشانق من الخشب، المنصب والجاه والدنيا مشانق عظيمة كذلك، حين يريد المولى عز وجل أخذ أحد ما يعطيه منصبا عظيما وملكا كبيرا كما أعطى لفرعون والنمرود وأمثالهم، وضعهم الحق تعالى في تلك المشانق حتى يطلع الخلائق على قدرته ويعرفهم بنفسه، لقد خلق المولى تعالى الكون لكي يعرف أحيانا باللطف وأحيانا بالقهر، فهو ليس بالملك الذي يمكن لواحد أن يعرف به، فلو عرفته كل ذرات الكون لكانت قاصرة في التعريف به سبحانه، لذلك فكل ذرات العالم تظهر الحق تعالى وتدل عليه صباح مساء، فهناك من الخلق من يعرفونه ويحرصون على تلك المعرفة، وهناك منهم غافلون عن الحق ولو كان الحق ثابت الظهور، فمثلا حين يأمر الأمير بضرب أحد المذنبين، فبالرغم أن أثر أمر الأمير يظهر من صياح المضروب وتألمه، فالناس جميعا يعلمون أن الضارب كذلك محكوم بأمر الأمير ومظهر له.
إن الذي يثبت وجود الحق مُظهر دائم له، والذي ينفي وجوده هو مُظهر له كذلك، لأن الإثبات بدون نفي لامعنى ولا لذة له. فإذا كان مناظر في مجلس يقول بمسألة ما بودن وجود معارض ينفي كلامه، فلا مجال هناك أصلا لللإثبات ولاهدف له. فالإثبات يكون جميلا حين يقابله النفي، إذن فالكون محفل لأظهار الحق وبدون مثبت وناف لايكون جميلا وجذابا وكلاهما يثبت وجود الحق تعالى.

قيمتك

قال أحدهم في محضر جلال الدين الرومي: لقد نسيت شيئا، فأجابه جلال الدين: هناك شيء واحد فقط هذا العالم لا ينبغي نسيانه، إذا نسيت كل شئ ولم تنسه فلا ضرر في ذلك، وإذا نسيته وتذكرت كل شيء فكأنك لم تفعل شيئا، مثلا إذا أرسلك ملك إلى مدينة من أجل أداء مهمة معينة، فذهبت إلى تلك المدينة وأديت مئات المهمات إلا تلك التي كلفك بها الملك، فكأنك لم تؤد أي عمل. ألا ترى أن الإنسان جاء إلى هذا العالم من أجل هدف محدد، وعدم أداءه ذلك العمل يعني أنه لم يفعل شيئا.
يقول سبحانه وتعالى : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)، انظر كم من الأعمال التي تصدر من الأرض: أحجار تتحول إلى ياقوت وجبال تصبح ذهبا وفضة، أراض تزهر بساتينا، وفوق ذلك كله تستر العيوب، عمل واحد فقط لا يأتي منها، إنه عمل يأتي فقط من الإنسانSadولقد كرمنا بني آدم)، لم يقل ولقد كرمنا الأرض والسماء، وإذا قام الإنسان بذلك العمل تنتفي عنه صفتي الجهل والظلم.
إذا قلت : ( إنني أقوم بأعمال كثير غير ذالك العمل)، أقول لك بأن الإنسان لم يخلق لذلك، أنظر مثلا إلى شخص أخذ سيفا هنديا غالية القيمة من تلك السيوف التي توضع في خزائن الملوك، وقال إنني لن أترك هذا السيف معطلا، فبدأ يستخدمه في قطع اللحم، أو الذي أخذ قدرا ذهبيا واستعمله لطهي الطعام، ومثلهما من أخذ سكينا مرصعا بالجواهر ودقه في الحائط وعلق عليه القرع ودائما بنفس الحجة أي ألا يتركه معطلا..أليست هذه السلوكات بالأعمال المضحكة المؤسفة.
لقد أعطاك المولى الكريم قيمة عظيمة للغاية، ألم تسمع لقوله سبحانه وتعالى : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة)، وقال الشاعر: (قيمتك أكبر من كلا العالمين، ما ذنبي أنا إذا لم تقدر قيمتك، إذا فلا تبع نفسك رخيصا فأنت غالي)، أما إذا احتججت قائلا: ( إني أشتغل بأعمال كبيرة، كالفقه والحكمة والمنطق والفلك)، أجبتك بأن كل هذه العلوم أوجدت من أجلك، ولخدمة وجودك وحفظ حياتك، فهي فرع وأنت الأصل فإذا كان الفرع بكل هذا التنوع والتشكل العجيب، فكيف بالأصل وما يخفيه من عجائب وكنوز..