ممي آلان.. الملحمة الكردية الخالدة، الدلالة والمعنى


يوسف يوسف من موقع كلكامش :



في منتصف ثمانينات القرن الماضي، اقتادني هوى النفس الى اعادة قراءة ملاحم بعينها ومنها (الإلياذة) و (الاوديسة) و (الإنيادة) و (جلجامش). كنت اتوخى من تلك القراءة المتعة، وان حملت في طياتها الرغبة في معرفة الشعوب من خلال سردياتها ومروياتها الشهيرة. بيد ان تلك الاعادة، حملتني بدون نية مسبقة، الى البحث عن ملاحم واساطير اخرى، ربما لأنني اكتشفت الثراء الذي تتميز به عادة، فقرأت ما وقع بين يدي من ملاحم واساطير اوغاريت والفراعنة، كما قرأت (الشاهنامة) ملحمة الفرس، و (الرامايانا) ملحمة الهنود، وكذلك كتاب قبائل الكيتشي المقدس (بوبول فوه) الذي هو ايضا مجموعة اساطير وملاحم. إبان قراءة الرامايانا، التي هي قصة حب وسبر اعماق حياة مجتمع، يبدو ان الصديق الأديب الكردي المعروف محيي الدين زنكنه، انتبه لما اعكف عليه. في لقائنا التالي الذي لم يتأخر، قدم لي ملحمة (ممي آلان). كان المطبوع هدية ثمينة ما تزال تزين مكتبتي الشخصية. وزنكنه الذي احترم مواقفه في الحياة، كما احترم منجزه الابداعي، فعل ذلك عن قصد. ذلك انه يدرك جيدا بأن الملاحم التي تنتجها الشعوب، تدل بوضوح على تطور بنيتها الذهنية والحضارية. هذا يعني انه اراد اختصار الحديث عن تطور هذه البنية عند الكرد، بوضع الكتاب امامي، وترك الكرة كما يقال في ملعبي. ربما المتعة التي كنت ابحث عنها آنذاك، غيبت من امامي الكثير مما يرتبط بفنية النص، وما يحفل به من مؤشرات اجتماعية وانسانية تختص بالكرد، الا ان القراءة الثانية جعلتني اجزم بصحة استنتاجي الاول- القصدية في الاهداء

في القراءة الثانية يكشف النص عن نفسه اكثر، وتكتمل رؤية القارئ له. ايضا فان فارق العشرين سنة بين زمن القراءتين، وما يترتب عليه من تطور في المعرفة الذاتية وتحرر ابجدياتها من عناصر الجهل التي لابد ان تكون القراءة الاولى السريعة قد اتصفت بها، من شأنه ان يحملنا على القول، ان ملحمة (ممي آلان) تحتم علينا الانتباه الى مسألتين متداخلتين: الاولى ترتبط بقيمة سرديات الكرد ومروياتهم، ومكانتها بين سرديات الاخرين ومروياتهم والثانية تذهب باتجاه تأكيد اهمية البحث عن هذه السرديات والمرويات، التي تعرضت في اعتقادنا (شأنها في ذلك شأن مرويات وسرديات اقوام اخرى تعرضت للاضطهاد والسحق الثقافي والتاريخي كالفلسطينيين والهنود الحمر لمحاولات مناوئة اما لنفيها تماما، او السطو عليها. هذا يعني ان النظرة الجادة الى (ممي آلان) يجب ان تأخذ بمبدأ التحليل والتشريح العميقين/ مرة بهدف الكشف عما بين سطورها لمعرفة واقع الكرد، وشخصيتهم، وعقليتهم، واخلاقهم.. الخ من عناصر البنية التي يتميزون بها/ وثانية بهدف الكشف عن قيمتها الجمالية، كملحمة فولكلورية، وهي القيمة العليا التي نظن انها كانت السبب في عدم موت هذه الملحمة، او اندثارها، التي- كما يقول الدكتور عزالدين مصطفى رسول- ظهرت قبل ميلاد المسيح. وان تحليلا كهذا يحتاج لدراسة موسعة، لا تحتملها صفحات هذه المقالة التي تتوخى التعريف بالملحمة والاشارة الى تداعيات قراءتها.

تندرج (ممي وزين) في سياق الملاحم التي انجزها العقل البشري، وان تميزت بطابعها الفولكلوري على المستوى الاسلوبي، تقص حكاية الملك الكردي الشاب ممي آلان، والفتاة الكردية الجميلة زين التي هي الاخرى من نسل ملوكي تعيش في جزيرة بوتان، أي على مسافة بعيدة جداً عن مدينة المغرب حيث يعيش ممي آلان. وعبر فضاءات مفعمة بالحنين، والرغبة بالزواج من زين، فان الحكاية التي تصور مختلف الصعوبات التي يواجهها الملك الشاب في رحلته الى جزيرة بوتان فوق حصانه الأشهب، تقدم رؤية للواقع الكردي في العديد من جوانبه. ان الرحلة ليست نوعا من المعالجة الفانتازية التي تحمل البطل فوق حصانه الأشهب الذي يختصر المسافات بسرعته الفائقة، وتنقله من مكان الى آخر، وانما هي ايغال في الحفر داخل هذا الواقع، يكشف السارد من خلاله عن المكنونات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. صحيح ان هذا الايجاز يلخص حكاية الملحمة، او انه يشير الى قيمتها الاساسية، الا ان اللافت للانتباه فيها تتعدد مصادره. فهي في الوقت الذي تحتفظ فيه بطابعها التراجيدي النبيل، الذي هو طابع الملاحم عموماً، لا تخفي انتماءها للحيز المكاني الممتلئ بالكرد، دون ان يغيب عن الأذهان، انها تسجل احداثا واقعية، ينحصر دور المخيال في التعامل معها بترتيبها على المستوى الدرامي وتطور البنية. أي ان الملحمة بفنيتها العالية، استطاعت ان توهمنا كقراء بواقعية احداثها، وبحقيقة وجود ممي آلان وزين وسواهما من الشخصيات الكردية في التاريخ الذي تقع هذه الأحداث فيه. وحتى لو افترضنا بانهما- ممي وزين- وسواهما من انتاج خيال السارد الاول، فان هذا السارد بسبب القدرة على تحقيق الايهام، استطاع ان يضع امام انظارنا مرحلة من حياة الكرد، بكل مكوناتها وما فيها من علامات التطور الكثيرة.

ربما لم تكن (ممي آلان) بهذا الاتساع قبل بدء رحلتها الطويلة مع الزمن. لكن مما نظنه، ان العقل الكردي الذي انجزها في شكلها الاول، ظل يجري عليها الاضافات والتحسينات، بما في ذلك السعي لأسلمتها بعد دخول الكرد في الاسلام. واذا كان هذا الفعل مما يكشف عن السياق التطوري لهذا العقل، فانه في الجانب الآخر منه، يدل على ان الكردي لم يتنازل عن هويته، وقد ظل يتشبث بها. نستدل الى ذلك من خلال محافظة الملحمة على روحها، ونكهتها، اللتين تنبعثان من المكان والشخصيات. واذا اخذنا بالرأي القائل بضرورة اعتبار المفردات مرجعيات لمناقشة أي نص، وان مفردة (ممي) هي اختصار لمفردة (محمد)، فان الملحمة حتى بعد ان تمت عملية اسلمتها-اعطاؤها الطابع الاسلامي- لم تفارق قاعدة نشأتها الاولى، التي هي كردية بالطبع وكما تشير المفردة. ولعلها لهذا السبب ايضا، اصبحت المرجعية التي استفاد منها الشاعر الكردي الكبير احمدي خاني في مطولته الشهيرة (ممي وزين).

عندما وضعنا الملحمة في سياق ملاحم اخرى، كان القصد التأكيد على ضرورة ان ينتبه الكرد الى سردياتهم ومروياتهم، لأنها قبل غيرها، تقدم الاجابات الوافية على العديد من اسئلة التشكيك التي يحملها طوفان المرويات المناوئة لهم. وفي اشارتنا تلك ايضا، قصدنا التنبيه الى الوجود الكردي الفاعل في التاريخ من خلال قراءة هذه الملحمة، التي نتمنى ان تكون مع ملحمة (قلعة دمدم)، البداية الى ملاحم اخرى، تروي قصة الكرد مع الحياة كما سجلتها سردياتهم ومروياتهم التي حجبت فترات طويلة.