مير كور ( الأمير محمد الراوندوزي )

بدأ عهد جديد للإمارة من التقدم والرقي لم تشهدها سوران طيلة فترة حكامها السابقين ، وتوسعت كثيراً حتى شملت منطقة شاسعة " تمتد من سنجار إلى القرى الكوردية في أذربيجان الإيرانية ، ومن ( حصن كيف ) إلى نهاية الأراضي التابعة لمدن مخمور والكوير وآلتون كوبري ( بردي ) . وهكذا أصبح الأمير على حد قول مارك سايكس : " سيد البلدان الواقعة بين الحدود الشرقية للدولة العثمانية والموصل في بداية القرن التاسع عشر ".
ويقول الدكتور جليلي جليل : " استطاع الأمير محمد في حدود عام 1833 م بسط سيطرته ونفوذه على المناطق المحيطة بسوران حتى وصلت حدود إمارته إلى منطقة الجزيرة ومن الأسفل إلى نهر الزاب وهو الحد الفاصل بينه وبين إمارة بابان " . وكتب ، ك.راولنسوني السائح ، في حدود عام 1938 م بهذا الصدد : " بعد الهجمات التي شنها الأمير محمد وصلت سلطته من مدينة شنو ( الإيرانية )إلى ضفاف نهر دجلة ( العراق )وإلى نهر الزاب الصغير .
ويقول المحامي عباس العزاوي : " كان أمراء السورانيين زال ذكرهم من البين بـ ( آل بابان ) ولم تظهر حوادث عنهم إلا قليلاً ، وإنما بدأت حوادثهم تظهر أيام ( كور باشا ) . ويعرف بـ ( مير كوره ) وهو محمد باشا الراوندوزي وكان من السورانيين ومنهم من قال أنه من أمراء ( لب زيرين ـ الكف الذهبية ) في برادوست من أمراء زرزا ، شن غارات عديدة وأوقع وقائع قاسية وقعت أيام داود باشا .
فالأمير محمد كور باشا الراوندوزي ( محمد كور أي محمد الأعور ) ، والذي لقب بالباشا الكبير ، ولد عام 1198 هـ ـ في راوندوز، وهو اب ( مصطفى بك ) ، أما والدته فهي ( بوك شاه زه مان ) ، درس على يد الملا أحمدي آدمي وكان من كبار علماء الدين في عصره في كوردستان ، ولأجل ذلك أ مر مصطفى بك ببناء مدرسة خاصة ومسجد له في راوندوز، لا تزال آثارهما باقية إلى يومنا . كان الأمير محمد على جانب عظيم من الدهاء وسداد الرأي والقوة ، وكان الهدف الإستراتيجي له هو توحيد الأراضي الكوردية تحت قيادته ، وبناء كيان كوردي يستطيع الصمود والتصدي للمطامع العثمانية والإيرانية القاجارية في كوردستان ، وسك النقود باسمه ، وأنشأ مصنعاً لصناعة الأسلحة والمدافع في راوندوز . ( التي سنأتي على ذكرها لاحقاً ) ، وعامل اللصوص وقطاع الطرق بقسوة شديدة وبدون رحمة ، وينقل لنا السائح الإنكليزي فرايزر ، والذي صادف الكثير من اللصوص وقطا ع الطرق في أرجاء الإمبراطورية العثمانية : " أن هيبة الأمير محمد وسطوته جعلت من إمارة سوران والمناطق التي تحت سيطرته أن تنعم بالأمان ".
ويذكر كتاب خلاصة تاريخ الكورد وكوردستان نقلاً عن الدكتور ( روس )طبيب السفارة الإنكليزية الذي كان في بغداد حينذاك ، وطلبه الأ مير محمد باشا في بلاد السوران لمعالجة عين والده ( مستفى بك ) الكثير عن حالة الإمارة آنذاك والأمن المستتب فيها . يقول : " أن الباشا قد خصص أطراف ( أربيل ) لمعيشة مشايخ بلاده ، كما أن عشيرة ( طي ) العربية خاضعة لحكم الباشا ، ولهذه العشيرة قوة عسكرية في خدمة الباشا معسكر ة حول العقرة " ، ويضيف :" وحدث أن شيخاً من شيوخ ( طي )كان مع عشيرته قد لجأ إلى الباشا ، حدثته نفسه أن يقدم على ضرب قافلة تمر من البلاد وسلب أموالها ، فما كان من الباشا إلا أن أرسل عشرة من رجاله الأكراد إلى هذا الشيخ غداة الحادثة لتقطع رأسه من غير ضجة ولا قتال ".
ويصف الدكتور ( روس )لنا الأمير محمد بعد لقائه به في عقرة : " أنه يناهز الخمس والأربعين من عمره بهي الطلعة حلو الحديث أسمر اللون طويل اللحية أعور العين مربوط إحدى الساقين ، لأن دابته كانت رفسته وخدشته ، وكان يتكلم بصوت خفيف بطيء . وسأل عن أصول التدريس والتعليم في أنجلترة وغيرها من الأسئلة العامة ، ثم عطف على العلاقات بين الإنجليز والروس وإيران وأظهر اهتمامه بها . وبعد ذلك استوضحني عن الأعمال الطبية وأثرها حتى ذكر الطاعون والكوليرا فسألني عن طريقة مكافحتهما ثم وقف في مسألة البحث عن الأسلحة والبنادق ، وكان ينام في الليل متأخراً فلذا ما كان يصحو من النوم قبل الساعة التاسعة والعاشرة قبل الظهيرة ".كما يذكر الدكتور ( فرازر ) عن الأمير محمد : " أن دراستي الخاصة أثبتت لي أن الباشا كان على جانب عظيم من الحيطة والحذر مع بعد النظر ودقة الشعور ، وكان مع عدله المفرط لا يتردد في إراقة الدماء عند اللزوم ، ثم يضيف لم يكن لمحمد باشا ثقة بالسياحيين الأجانب ، فما كان يسمح لهم بالطواف في أنحاء بلاده ، وهذا لا يمنع أنه كان يبيح التجار والمسببين من أهالي البلاد المجاورة ، دخول بلاده ومزاولة التجارة فيها ، لكنه ما كان يقبل أحداً من بلاد خصومه أن يدخل بلده ، مهما كانت الظروف وإذا قبض على أحد منهم عد أسيرا ") .
وكان الأمير محمد شديد التمسك بالدين الإسلامي ، لهذا عامل الإيزديين الكورد بقسوة بالغة وكان يعتبرهم (كفاراً ) وأراد أن يفرض عليهم الدين الإسلامي بالقوة لكنه لم يفلح في ذلك ، وأوقع المذابح بهم في مشا رف الموصل ، وكانت وصمة عار له، ولم يغفر التاريخ له ذلك .
وتعاون الأمير محمد مع الأمير القوي بدرخان أمير إمارة بوتان ، وبعث بدرخان أخاه سيف الدين في الجزيرة طلباً لمساعدة الأمير محمد ضد أعدائه . كما راسل الأمير محمد الوالي محمد علي باشا في مصر ، ومد جيشه بالمؤونة في حروبه ضد العثمانيين عام 1832 م الذي انتصر فيها جيش محمد علي على العثمانيين في سوريا ، ويقول ب.ليرخ في هذا الصدد : " كان جيش محمد علي بقيادة ابنه إبراهيم باشا يعتاش على المؤونة التي كان الكورد يقدمها لهم ") .
باشر الأمير حكمه من البداية بثقة عالية وطموح قوي لتنفيذ ما يجول برأسه ، فقام أولاً بتحصين القلعة التي هي مركز الحكم ، وبناء سور لرواندوز وبإعداد الجيش وبناء المخازن للسلاح والعتاد ، وفي مرتفع مقابل راوندوز أمر ببناء قلعة حصينة سماها قلعة ( أيج ) وجعل فيها قوة دائمة مجهزة بالسلاح والعتاد ، وفي شهر رجب من نفس العام باشر بوضع حجر الأساس للقلاع والجدران حول راوندوز ، وبث العيون والبصاصين في أنحاء الإمارة لي زودوه بالأخبار يوما بيوم، وقرب الشيوخ والعلماء والشعراء وأزجل العطاء لهم ، وكان محاطاً بنخبة من علماء الدين يعملون كمستشارين له أبرزهم الملا محمد الخطي .
وفي عام 1816 م عهد الأمير محمد لبناء مصنع لصناعة الأسلحة إلى المدعو ( أسطة رجب )الذي كان بارعاً في صناعة الأسلحة والعتاد ، ووفر له كل ما يحتاجه من المواد الأولية والأموال اللازمة والصناع المهرة ، وقد أولى الأمير هذه المهمة عناية بالغة ، وذلك لادراكه أهمية التمويل الذاتي من الأسلحة والذخائر في حرو به المقبلة ، وفي نفس العام عقد الأمير محمد اتفاقية صداقة مع نائب السلطنة عباس ميرزا القاجاري ، وبعث وفداً إلى إيران . ومن جانب آخر بعث الأمير وراء (خان كليدي ) من ( ورمى ـ أورمية ) وكان هذا ماهراً في صناعة المسدسات والخناجر والسيوف ، وباشر الاثنان أي أسطة رجب وخا ن كليدي بالعمل وبنشاط ملحوظ عملهما في صب قوالب المدافع وصناعة المسدسات والعتاد والسيوف والخناجر . وفي محلة ( كارلوكان ) في راوندوز في عام 1233 هـ أي بعد سنة واحدة من إنشاء المصنع رأى النور إنتاج أول مدفع على يد الأسطة رجب ، فكان الأمير فرحاً جداً لهذا العمل العظيم ، ولم يستطع الانتظار لحين قدوم أسطة رجب إليه ، بل بادر شخصياً بالذهاب إليه مهنئاً ومشجعاً ، فأكرم الأمير أسطة رجب وأجزل له العطاء فمنحه 1000 ريال من الذهب و 100 ريال لكل واحد من الصناع والعمال ، آما أنعم عليه بالملابس الفاخرة مع حصان أصيل .
بالرغم من قوة الأمير محمد وجيشه المنظم ، لم يعتمد كلياً على القوة العسكرية لتوحيد الأراضي الكوردستانية ، بل اتبع الأساليب الدبلوماسية وبرع فيها ، فاختار نخبة من معاونيه وبعث بهم إلى رؤساء العشائر التي لم تكن منطوية بعد تحت حكمه ، لكسب ودهم وشرح أبعاد الخطط التي يرمي الأمير بإنجازها ، ونجح المبعوثون بمهمتهم بشكل يدعو إلى الإعجاب ، فبعث الأمير بعد ذلك الهدايا والأموال إليهم ومثنياً على الخطوة التي اتخذوها ، وهي القبول به كرئيس عليهم .
كما استطاع الأمير أيضاً أن يجمع حوله أولئك الرؤساء والقادة الذين كانوا يتذمرن من السياسات العثمانية التي كان همها الوحيد هو جباية الضرائب ومد الجيش العثماني بالجنود عند الحاجة .
بلغ الأمير محمد من القوة والجاه والسلطان ما لم يبلغه أي أمير من أمراء سوران قبله ، مما جعل القوات البابانية التابعة إلى الإمارة المعروفة بقوتها وتنظيم شؤونها ، أن تنسحب من كويسنجق ورانية إلى عاصمة الإ مارة ( السليمانية )دون قتال بمجرد وصول قوات الباشا الكبير إلى هذه المناطق ، وكان الأمير فرحاً بما حققه من انتصارات وهذا التراجع من قبل البابانيين ، الإمارة الجارة لإمارة سوران ، فأمر بصناعة مدفع جديد وكتب عليه " نصر من الله وفتح قريب ، الأمير المنصور محمد بيك متصرف راوندوز وكويسنجق وحرير " رداً على ما كان متداولاً أيام حكم البابانيين "حكام بابان في كويسجنق وحرير ".
وبعد هذه الانتصارات ومد نفوذه في أغلب الأراضي الكوردستانية عقد اتفاقية صداقة مع الحكومة القاجارية في إيران واعترفت الأخيرة رسمياً بحكومة وسلطان محمد باشا ، وبعثت له بالتهاني ، كذلك جاءت التهاني إلى الأمير من مناطق الموكريان وهكاري ، وبما أنه كانت العلاقات متوترة بين حكام بابان ووالي بغداد داود باشا ، استقبلوا هذه الأنباء بارتياح رغم قلق وخوف والي الموصل من ذلك .
أما من الناحية الإ دارية ، فقد بادر الأمير بتشكيل لجنة من ستة أشخاص من أقرب المقربين إليه سميت " لجنة الرؤساء "وكان بنفسه يترأس اللجنة ، وكلف رسول بك أخي الأمير بإدارة اللجنة ، كما أعطي مسؤولية بناء القلاع والسور وبناء الجسور والطرق إلى " أسطة إبراهيم ماويلي " ، والتجارة وما يتعلق بأمور الاقتصاد إلى شيخ مصطفى آغا ...الخ .
وبدأ بحملة عمرانية واسعة في بناء المساجد والمدارس والقلاع ، كما أولى اهتماماً خاصاً لبناء الجسور ، ليربط أجزاء الإمارة ببعضها البعض ، بعد التوسعات الكبيرة التي شهدتها سوران في عصره .
كما سك النقود بإسمه ، ومن خلال المصادر التاريخية التي ذكرت أعمال محمد باشا ، كانت العملة التي تداولت تتألف من سبع عملات من الذهب والفضة والنحاس مقسمة كالآتي :-
1 ـ يوزلي ـ وتساوي خمسة عشر قرش تركي .
2 ـ خمس عشرة ريال .
3 ـ سبعة قروش .
4 ـ أربعة تانكير .
5 ـ 3 / 4 جليك .
6 ـ خودابه ند 4 / 3 .
7 ـ شايي ـ وتساوي نصف قرش .
وكانت المئة قرش للعملة تعادل ليرة ذهبية عثمانية ، وكتبت على أحد وجهي العملة " مير مه نسوور ـ محمد بك " وعلى الوجه الآخر للعملة كتب " ضرب في راوندوز " .