غفت في تلك المدينة البعيدة ، ذبلت وهي تبحث عنهم، أين هم؟
رحلوا بعيداً، مضى عليها آلاف السنين هنا، تنتظر .
شابت خطاها، ترجوهم البقاء لكنهم يرحلون في كل مرة عنها ،بعد أن يلقوا بفتوحاتهم فيها .
كم أوهموها بنصرهم ،تنخدع ،وتعود لتصدق، هي بلاد العشق التي أمْها الجميع، وركعوا عند قدميها يطلبون عشقا صافيا كخيالاتها عنهم ،يتذوقون رحيق الغيث الأول وتغمرهم نشوة لا يقدرون علي احتمالها ،فيرحلون .
"لن أبحث عنهم ، لن أجوب طرقات العالم بحثا عن وجه أعرفه ليحتضن نهايتي لن أغسل عيني بشفقتهم، كلهم عرفوني، وما عرفتهم أبداً .
في المرة الأولي، أتى إلي قائلاً إنه سيسكنني لأنني عشق بلا حدود، بعدها غادر بعيدا أبعد مما أبصر.
" لن تصلح هذا العالم الفاسد، ولن تنجح بتمزيق كل حجب الوهم والوصول إلي يقين مطلق، مازالت أسربة خيالاتهم تلوح من بعيد كغلالة من الشفق، عبثا تحاول الوصول، لكنهم يرحلون .
"قال لي : ليس مني، خذيه، ارميه، اذهبي عني بعيداً وألقيه في بحيرة التماسيح، أمامي كثير من الغزوات والفتوحات والانتصارات ربما لن أرجع أبداً إلي هذه الأرض ،إنها لا تصلح إلا للعشق ،والعشق نهايته الموت، ولا أريد أن أموت.
حملته وليداً بين ذراعي لففت ذراعه بتميمةعشقي ووضعته هناك حيث ينام الصغار، ويلعبون، ويأكلون ويحملون أسماء غير أسمائهم الحقيقية.
" تحاول إدراك حكي الأماني لكنها كطفل صغير تعارك أشباح السراب، وولع يبحث عن الأكثر ،عبثا لا تجد فينتهي الكلام، ويذوي الشغف لأنها لم تعرف أبداً حجم البحر ولم تدرك بعد السماء.
"انتظرت كل مواعيد الأرض، والقطارات الآتية من بعيد عساهم يعودون ،لكهنم لا يذكرونني أبداً، كم كانوا ينتظرون علي بابي ليلاً وعند الفجر يمسحون أعينهم بالهرب مني ونسيان ما يخشون تذكره .

من خلف الأسوار كنت أرقبه، هانئاً كملاك، غافلا لا يدري أبداً خفايا علقم العشق وسواده قالوا:" إن رجلا ثريا تبناه، سيأخذه ويرحل بعيدا "من يومها عرفت أنني لن أبصره ثانية، ولن أسمع ضحكات عينيه وأري فراشات شعره الأشقر.
" تنادي في مواسم النيروز، ربما يعودها أحدهم ،مازال قلبها أخضر، وتحلم بأن يسكنه عاشق يندر لها شمعة كل مساء وبشعل نجومها فرحاً .
لم تيأس لأنها أرض العشق التي لا تنتهي ولم تكتشف بعد كل مجاهلها .
"وجهه يشبه فرسان الحكايا ،بدا آتيا لتوه من أزمنة الحنين ...
أنا متعب خذيني إليك أحتاج أن أغفو قليلا وأنسى من أين جئت، أنهكتني الحروب والمعارك، أتعبتني منازلة الموت، أريد أن أحيا ،أن أقبض علي الذهب بين ذراعي، وأنام علي حرير سخي، وأركض في قصوري وجناتي، و أريد أن أسمع رنين أساورك في أذني ليلاً .
" أرادت أن تسأله إن كان صادف في أسفاره صبياً ورجلا ثرياً يرحلان معاً من بلد إلي بلد، ويطوفان الدنيا التي لا تعرفها ، لكنها صمتت ،لم تقل له إن فيها جنات لم تكتشف بعد وأن عليه البقاء معها ليري ، نام في ذراعيها متعباً، وعند الفجر لملم كل عدته وعتاده ورحل. لم أبصر وجهه بعد تلك الغفوات، أوسمته ونياشينه المعلقة علي أشجار بيتي نزعها قبل مغادرته، هل فطن أنني سأبوح له بأن هناك ما يدغدغ أحشائي، فأسرع هارباً، أي نوة عشق تعصف بي فتلقي ببذوري إلي المجهول. من أين تأتي بكل هذا الأمل؟ وكيف تخبئ إيماناً بالعشق وتدعي أنها خاوية؟ منذ أول مرة صدقتهم فيها وهي تواصل ابتهالها وتقديم االقرابين لأوهام لا تملك لها يقين، تنادي، فلا يسمعون، ولا يعود رجع الصدى.
"طفلة حمراء الشعر، بلون العشق، أورثتها تميمتها، وتركتها أمام باب تستطيع أن تتمتع خلفه بالعيد حين يأتي على الأطفال، صفير الريح ليلتها يعوي ويدمدم ،وهي تترنح ألماً لتتخلص من إرثه.
لماذا أنا موصومة بالعشق؟ لماذا هم يعشقون ويرحلون بلا أي أثر يدل على عشقهم؟ كما يصعدون الجبال ،ينزلون الوديان يجوبون الصحاري، ويسلكون الثلوج، يعبرونني ،يخلعون أمتعتهم، يرتاحون، ينامون، بلا بصمة حزن أو فرح تؤكد عبورهم.
كم صار عمرها؟ لا تدري.. كم مضي عليها وهي تقوم بطوفانها الدائري عائدة لنقطة الانطلاق؟ لقد نست كل صلواتها القديمة وقرابينها وابتهالاتها التي كانت تتقرب بها لآلهة أوهامها السرمدية، بحثت كثيراً عنهم، مازالت تذكر ملامحهم، لكنهم ما تذكروها أبداً، عادت إلي مدينتها البعيدة، إلي نقطتها الأولي وغفت ...


ليلاف