أبجدية الياسمين.. ديوان ما بعد الرحيل.. نزار قباني أبجدية الياسمين.. ديوان ما بعد الرحيل.. نزار قباني Neezaaar
«الخبر» المفاجئ عربياً هو كتاب شعري جديد للشاعر الراحل نزار قباني بعنوان «أبجدية الياسمين» ويصدر اليوم عن المنشورات التي تحمل اسمه وقد باتت في عهدة دار نوفل التي تتولى النشر والتوزيع. بعد عشرة أعوام على رحيله «ينضم» كتاب جديد الى أعمال نزار قباني ليكون الثاني والأربعين بعد مجموعته الأخيرة «أنا رجل واحد... وأنت قبيلة من النساء» الصادر في العام 1993. أما «المبتدأ» فهو هذه اللقيا الجميلة والحدث النادر الذي يعود فيه الفضل، الى أولاد نزار قباني – هدباء وزينب وعمر – الذين أعدوا هذه القصائد التي كان نزار يكتبها في فترة مرضه على أوراق الأدوية والوصفات الطبية. وحسناً فعلوا إذ أهدوا جمهور نزار قباني على امتداد العالم العربي مغامرة، وطريقاً جديداً الى مرتقى شاعر استطاع الوصول الى وجدان الإنسان العربي وأعماقه، وشكلت تجربته الشعرية احدى العلامات المضيئة في تاريخ الشعر العربي المعاصر. ولكن، ما هي قصة هذا الديوان الذي نشر بعد رحيل صاحبه؟ كيف وصل الينا اليوم؟ كانت هدباء نزار قباني تلاحق فكرة خرافية وهي ان والدها سيعيش ما دام يكتب ويكتب. وفي المقدمة التي كتبها أولاد الشاعر قباني يقولون: «كنا نحرص على وضع أوراقه وأقلامه بالقرب من سريره لعله يكتب، لأن الشعر كان لديه هو الحياة. ولكن مع الأيام كثرت الأدوية وخفّت قدرته على الكتابة، فأزحنا الأوراق بعيداً وتركنا القلم. وفي ليلة استفاق ليكتب فوجد القلم من دون الورق، ولكن لحسن الحظ وجد كيس أدوية مصنوعاً من الورق. فأفرغ الكيس وكتب عليه فكانت هذه الصفحة الفريدة». وكانت هذه القصائد. الكتاب هو تحية لنزار قباني عبر جمع القصائد الأخيرة التي كتبها بين 1997 و1998(عام رحيله) ولم تصدر في كتاب سابقاً، وتنشر الآن بخط يد نزار المعروف وبغلاف رقيـق وجميل بأزهار شفافة من تصميم زينب، ابنة الشاعر.

يشير الكتاب الى أمور كثيرة، منها:


ان نزار قباني لم يتوقف عن الكتابة حتى قبل الشهر الأخير من وفاته في 30 نيسان (ابريل) 1998، انه ظل في كتابه الأخير أميناً لما بدأه في ألاّ تتناقض أشعاره وأفكاره أو أحلامه وكلماته، ان آخر قصيدة كتبها وهي «بدون عنوان» كانت كلاسيكية أي انه انتهى ينحت في قصيدة عصماء. لكن نــزار هو نزار مهــما كان الشكل أو الوزن أو الاتجاه.

وأما آخر بيـــت شعر كتبه نزار قبل وفـــاته هو: «تزرع المرأة السنابل والورد.../ ويبقى كل الرجال عشائر» (ص 159). هكذا يظل شعره سواء الوجداني أو السياسي، معجوناً بالصدق، محفوفاً بالتوتر، مسحوراًَ بأناقة الصورة وغناها، ومدفوعاً بقوة الحب والرفض والتمرد. ويتيح الكتاب المجال لمشاهدة مسودات نزار قباني وتخطيطاته الأولى، كما في قصيدتي «بدونك» و «يوميات شباك دمشقي».

إذاً، ديوان «أبجدية الياسمين» هو حصيلة ما كتبه نزار قباني بين عامي 1997 و1998. وفي تينك السنتين خاض الشاعر الراحل صراعاً قوياً مع المرض وتداعياته، وأمضى الوقت الطويل محدقاً في سقف غرفته في المستشفى محاولاً أن يجد فسحة صغيرة تركها المرضى السابقون ولم يكتبوا فيها شيئاً عله يتابع قصيدته ويكملها. ولا أزال أذكر حين قابلته للمرة الأخيرة في الغرفة الرقم 12 في العام 1997 في مستشفى «سانت توماس» في لندن وكنت حينذاك مدعواً كصحافي من وزارة الخارجية البريطانية. زيارة سريعة للاطمئنان على سلامته سبقها حديث عبر الهاتف مع ابنته هدباء. كانت ملامحه موشحة بالتعب والمرض، ولكن حين تحدث عن بيروت والأصدقاء في لبنان توردت الروح وامتقع الوجه. قال: «كيف أنسى الأصدقاء الذين أضاؤوا الشموع في حريصا وعلى درج سيدة لبنان على أمل شفائي؟ لو انني أضأت لهم عينيّ، فلا يكفي. لبنان سيظل بثقافته أكبر من الطوائف والسياسات والحروب». وقال كلاماً عن الألم العربي المستديم. وحمّلني سلاماً الى الأصدقاء في بيروت والى عميد «النهار» غسان تويني والشاعرين أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا. وعندما خرجت من المستشفى نظرت الى غرفته ورأيت السماء تمطر والقلب يمطر والأغنيات تمطر. ولم يخطر لي أبداً أنه كان يكتب في تلك الآونة قصائده على كيس ليصل الينا بعد عشرة أعوام في هذه «الأبجدية» الجميلة التي اسمها «أبجدية الياسمين».

ماذا في ديوان نزار قباني الجديد؟ يضم الكتاب مقدمة و13 قصيدة و «يوميات لشباك دمشقي». وموضوعها مثل موضوع نزار كله: الحب والثورة. ومداها ذلك الرباط الوثيق الذي أقامه قباني مع الناس كاسراً القيود بين الشعر والناس ليصبح أحد أكثر الشعراء العرب المعاصرين تواصلاً مع الجمهور في أمسيات مشهودة في المدن العربية كافة، ورواجاً مستمراً لكتبه، حتى بعد رحيله.

وإذا كانت بعض القصائد تحمل معها طعم النهايات في كتابه مثل قصيدة «تعب الكلام من الكلام» التي كتبها في 15 آذار (مارس) 1997 والتي يقول فيها:

«لم يبق عندي ما أقول

تعب الكلام من الكلام

ومات في أحداق أعيننا النخيل

...........

لم يبق عندي ما أقول

يبست شرايين القصيدة

وانتهى عصر الرماية والصبابة...

وانتهى العمر الجميل

ماذا سيبقى من حصان الحب...

لو مات الصهيل» (ص 22).

إلا أن في قصيدة «التفرغ»، نلمح التوتر والرقة:

«اكتبكِ... على سنابل القمح...

فتأتي العصافير عند الصباح...

وتحملك الى أولادها» (ص 112).

ويحمل في داخله شغف القلق والبحث عن كلام آخر ولغة جديدة وقول مختلف:

«ما زلت أبحث في لغات الأرض

عن لغة

تكون بمستوى حبي الكبير».

ويقول متحسراً في نهاية القصيدة وقد فاتته لحظة الندم.

«أنشدت في عينيك ألف قصيدة

لكنني لم أكتب البيت الأخير» (ص 41).

شاعر الحب الدائم نزار قباني وان كان هنا عليل الجسد والروح والشوق. ويظل على رسله ويصر على أن يكتب «رسالة جديدة من صديقة قديمة» بصوت المرأة ونوازعها وأحاسيسها. وهناك قصيدته تقف خلف الباب وكذلك وجه المرأة والحب والصور. وذلك الافتتان بالحب والعشق والمرأة التي ملكت شغفه وصوابه. ويظل موقفه الرافض المتمرد من أوضاع البلاد وأحوال الأمة ثابتاً ومدوياً واستشرافياً، إذ يقول في قصيدة بعنوان: «طعنوا العروبة في الظلام بخنجر،ٍ فإذا هم بين اليهود... يهود».

«لا تسأليني،

يا صديقة، من أنا؟

ما عدت أعرف...

- حين أكتب –

ما أريد...

أنا من بلاد...

كالطحين تناثرت...

فرقاً...

تغزو القبائل بعضها بشهية

كبرى...

وتفترس الحدود حدود

لا تسأليني، يا صديقة، ما أرى.

فالليل أعمى...

والصباح بعيد

طعنوا العروبة في الظلام بخنجر

فإذا هم... بين اليهود يهود!!!» (ص71).

انه العارف المجروح بهويته وعروبته وليل الشرق الطويل. وهو المطعون من جراء ذلك حتى الوريد.

وفي قصيدة أخرى يتوهج خيال نزار قباني من قضية الأندلس وقصر الأحمر وسيوف بني الأحمر وعباءة أبي عبدالله الصغير والموشحات والقناطر. وتأخذه لفتة الشوق والحنين الى بلاده:

«أنا مئذنة حزينة...

من مآذن قرطبة...

تريد أن تعود الى دمشق» (ص 80).

هذا الحدس تحقق بعد سنة وسبعة أشهر. توقف القلب فجر الخميس 30 نيسان (ابريل) 1998 وعاد في أيار (مايو) محمولاً الى مدينته الأولى. وسارت جنازة نزار قباني في شوارع دمشق ومشت النساء أيضاً خلف نعشه في ما يشبه الطلوع الى الضوء، وكأنهن يردِدن للشاعر الكبير بعضاً من حصاد الحب والشعر والحرية. صرخ أحدهم: «حي الياسمين...» وسُمعت شهقات عالية وخفيضة ومخنوقة... وها هو اليوم وبعد عشرة أعوام من رحيله كتاب «أبجدية الياسمين» ينهض ليأخذ مكانه في مسيرة نزار قباني، وليكمل ما بدأه ذات يوم من العام 1944 في كتاب «قالت لي السمراء». انه أول الغيث وآخره يتداولان في القضية عينها (الحب والشعر والحرية)، وفي حضور الشاعر وغيابه، وتحت سمعه وبصره وأنامله العشر.
المصدر: الحياة